أكد أستاذ الفقه وأصوله في جامعة القصيم الدكتور صالح بن محمد اليوسف في دراسة تأصيلية له بعنوان «الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد» وجوب المحافظة على الأقضية والإبقاء عليها إذا نُفذت وتم الإلزام بها، فلا تنقض حتى لو تغير الاجتهادبل تبقى الأقضية على حالها، إلا فيما يستجد من مسائل لا تندرج تحت هذا التقعيد. وفي مبحث معنى القاعدة الفقهية المذكورة استخلص اليوسف أن القاعدة تعني في اللغة أن بذل الوسع ومنتهى الطاقة لا يُفسد ويُهدم بما يساويه، وفي الاصطلاح أن الفقيه إذا بذل جهده لدرك الأحكام الشرعية العملية بطريق الاستنباط ونفذ فإنه لا ينقض بالاجتهاد اللاحق. مستدلاً فيما ذهب إليه بالإجماع والأثر والعقل. أما الإجماع فينقل الكاتب أن الصحابة أجمعوا على العمل بمضمون القاعدة، ووردت عنهم آثار كثيرة في قضايا متعددة تفيد أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وكانت هذه الآثار في محضر ومسمع من الصحابة، وأما الآثار فالعمل بمضمون هذه القاعدة متواتر بها عند سلف هذه الأمة، والآثار الواردة عنهم في ذلك بلغت مبلغ القطع الذي لا يدع للشك مجالاً في العمل بالقاعدة، وأما العقل فقد دل على اعتبار القاعدة. نقل اليوسف في بحثه الذي نشرته مجلة «العدل» أخيراً عدداً من أقوال أهل العلم تؤيد أن العمل بمضمون القاعدة هو الراجح، وذلك لقوة أدلته على التفصيل المذكور، لكنهم اشترطوا لإعمالها شروطاً أهمها أن لا يخالف الاجتهاد نصاً من نصوص الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس أو القواعد الشرعية، فإن خالف شيئاً من ذلك نقض، لافتاً إلى أن الدليل الذي يعارضه الاجتهاد إن كانت دلالته قطعية فإنه ينقض به الاجتهاد، وإن كانت ظنية فإنه لا ينقض به. وأحال الباحث إلى تفصيلات في مسألة نقض الاجتهاد بالسنة، وذهب إلى أن السنة إذا كانت متواترة وكانت دلالتها قطعية ينقض بها الاجتهاد، وإن لم تكن دلالتها قطعية فلا ينقض بها الاجتهاد، وأما إذا كانت مشهورة فعلى قول من قال إن السنة المشهورة بمنزلة المتواتر تأخذ حكمه في نقض الاجتهاد بها إذا كانت دلالتها قطعية. وفي حال كون الدليل من السنة آحادياً فمن قال إن الآحاد تفيد العلم ينقض بها الاجتهاد، لأن دلالتها في هذه الحالة تكون قطعية. ومن قال إنها تفيد الظن فلا ينقض بها الاجتهاد، ومن قال إنه مفيد للعلم إذا احتفت به القرائن، قال ينقض به الاجتهاد. وهو ما رجحه المؤلف، مشدداً على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له وعملاً به فإنه يوجب العلم. ولم يكتف البحث بدراسة وتقصي موقف علماء الأصول من الاجتهاد إذا خالف دليل الكتاب والسنة، بل تطرق إلى مسألة مخالفة الاجتهاد الجديد لإجماع الفقهاء، مؤيداً أنه إذا كان الإجماع قاطعاً نقض به الاجتهاد، وإن كان ظنياً لم ينقض به الاجتهاد، والتمييز بين القطعي والظني هو الأولى، لأن الظني محل اجتهاد، فلا ينقض بالاجتهاد. وحول التساؤل الذي يدور حول نقض الاجتهاد بالقياس يرى اليوسف أن الاجتهاد لا ينقض إذا خالف القياس ولو كان القياس جلياً، لأن القياس، بجميع أنواعه لا يخرج عن كونه اجتهاداً، وإذا كان اجتهاداً فلا ينقض به الاجتهاد وهو رأي الحنابلة في هذه المسألة خلافاً لفقهاء آخرين يرون أن القياس ينقض الاجتهاد إذا كان جلياً، ما يدل على أن الحنابلة في هذه المسألة أكثر تسامحاً من غيرهم. وأوضح الباحث خلال طرحه لإشكال إمكان نقض الاجتهاد بالقواعد أن الاجتهاد لا ينقض بالقواعد الفقهية إلا إذا كانت مجمعاً عليها، ثابتة بدليل قطعي الدلالة، فتكون راجعة إلى الإجماع، مستخلصاً أن قاعدة «عدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد» لها فروع كثيرة تندرج، لأن كل مسألة بُنيت على الاجتهاد فإنها لا تنقض بالاجتهاد، إذ ليس الاجتهاد الثاني بأولى من الأول، وكل مسألة اجتهادية إذا حكم الحاكم فيها لا ينقض حكمه. وكما هو الحال مع أكثر القواعد يؤكد اليوسف أن لقاعدة عدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد استثناءات قليلة ومعدودة على حسب ما ذكره أهل العلم، بل إن بعض العلماء لم يذكروا فروعاً مستثناة من القاعدة، تتعلق بمسألة الغبن وإحضار البينة في مسائل المطالبات المالية. ويتحدث الكاتب عن الثمرة المتحصلة من البحث في القاعدة مورداً أنها ترجع إلى أهميتها في باب القضاء والحكم، فهي تتعلق بالتيسير والتسهيل على القضاة، ورفع الحرج عنهم في أثناء مهماتهم القضائية. فإذا اجتهد القاضي في بيان الحكم الشرعي، وقام بتطبيقه والإلزام به، ثم تغير اجتهاده بعد ذلك، وتوصل إلى حكم آخر غير الذي تم تنفيذه، فهل يلزم القاضي نقض الحكم السابق والإلزام بالثاني؟ لكنه في الوقت نفسه ينبه على أن لها صفتا الشمول والخصوص. أما الشمول فيرجع إلى شمولية الاجتهاد لأبواب العلم، فكل مسألة يسوغ فيها واستدل الكاتب للقاعدة المذكورة بالكتاب والسنة والاجماع والأثر والعقل. فمن الكتاب قوله تعالى «ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم». ومعلوم أن ما نفذه النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ الأسرى لم يتم نقضه، بل بقي على حاله، وإن ظهر أنه اجتهاد خاطئ، وبهذا تكون الآية دليلاً على قاعدة «الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد». الدليل الثاني ما ورد في الحديث «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فتغيمت السماء، وأشكلت علينا القبلة، فصلينا وأعلمنا، فلما طلعت الشمس إذا نحن قد صلينا لغير القبلة، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عليه «فأينما تولوا فثم وجه الله». يعلق الباحث: «فهذا الحديث فيه دلالة واضحة على أنه إذا صلى المجتهد باجتهاده إلى جهة ثم بان له أن صلى إلى غير جهة القبلة يقيناً لم تلزمه الإعادة، لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد». كما جاء في بعض ألفاظ الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لقد أجزأتكم صلاتكم»، ولم يأمرهم بالإعادة. بعد ذلك يستدل الكاتب على صحة القاعدة بإجماع الصحابة على العمل بمضمون القاعدة، وورود آثار كثيرة في قضايا متعددة تفيد ذلك، مقتبساً مقولة السيوطي: «الأصل في ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم، نقله ابن الصباغ». ومن ضمن الأدلة الأخرى القوية من عمل الخلفاء الراشدين حديث عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري حين قال له في خطابه: «ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم، فراجعت فيه رأيك، وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل»، وعلى رغم احتمالية هذا الدليل إلا أن اليوسف يؤكد أن معناه أن القضاء الذي قضيت به في الماضي، لا تمنعن من الرجوع إلى غيره، إذا بان لك أن القضاء به أولى، بمثل ما قد مضى، ولم يرد نقض ما قد مضى من القضاء. من جهة أخرى، يذهب اليوسف إلى أن النصوص والقياس والإجماع ليست وحدها الدالة على صحة هذه القاعدة، بل العقل أيضاً يدل على صحتها، ضارباً المثال على ذلك بأنه «لو جاز نقض حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية، فإما أن يكون من غير سبب وهو باطل قطعاً، أو بسبب وهو تغير الاجتهاد، أو بحكم حاكم آخر وهو أيضاً باطل، وإلا لجاز نقض النقض، وكذا نقض نقض النقض إلى غير نهاية، إذ ليس البعض أولى بذلك من البعض الآخر، وحينئذ فإما ألا يجوز نقض شيء منها وهو المطلوب، أو يجوز نقض كلها، وهو الملازمة لكن ذلك باطل، لأنه يلزم منه الإخلال بالمقصود الذي لأجله نصب الحاكم، وهو فصل الخصومات، وقطع المنازعات، فإنه على هذا التقدير لا تنفصل خصومة، ولا تنقطع منازعة، فإنه وإن حكم حاكم في قضية فالخصم الآخر يرفع خصمه إلى حاكم آخر، يرى خلاف ذلك، فتبقى القضية متنازعاً فيها أبداً، ومعلوم أن هذا مضاد مقصود نصب الحكام، فكان باطلاً». ويتابع اليوسف استدلالاته العقلية لصحة قاعدة عدم نقض الاجتهاد بنظيره قائلاً: «إن الاجتهاد الثاني ليس بأقوى من الأول، فيؤدي إلى نقض الحكم بمثله، لأن كلاً من الاجتهادين ظني، فلا يمكن الجزم بصحة أحدهما وتخطئة الثاني، وإذا كان الأمر كذلك، فلا يقوى لظن الثاني على رفع الظن الأول، لأن كلاً منهما قابل للخطأ والصواب، وعليه فلا يجزم بصحة أحدهما من دون الآخر، ومن القواعد المقررة: أن الظني لا يرفع بالظني، لأنهما في رتبة واحدة، قال ابن أمير الحاج: «ولا ينقض لمخالفته الظني منها، لتساويهما في الرتبة».