تحدثنا في الأسبوع الماضي في القسم الأول من الكتاب، عن جذور فكرة البطل الخارق في الثقافات العالمية والثقافة الغربية تحديداً، كونها البيئة الأبرز التي أنتجت البطل الخارق في مفهومه الحديث، وهو في ذلك أي البطل الخارق، ناله من التغيرات والتحولات سواء على صعيد الشخصية التي يمثلها والأخلاقيات التي يجسدها ما نال الثقافة الغربية من تحولات نحو الأنموذج الرأسمالي ذي التطلعات الاستعمارية والممتلئ بشعور التفوق والاستحقاق في تمرير قيمه الكبرى، إذ يمكننا أن نشاهد من خلال سوبرمان البطل الخارق الأشهر ذلك التحول ولكن بشكل عكسي يؤكد نظرية التحول ولكنه لا يصدق بشكل كامل على التغير الذي عاصرته الثقافة الغربية منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى العقد الأول من الألفية الثالثة، ربما كان تحول سوبرمان تحولاً براغماتياً نفعياً يراعي تسويق روايته المصورة في وسط مجتمع بدأ يسود فيه وبوعي حثيث طرح عالي الصوت عن حقوق الإنسان والمساواة والعدل، وعليه فقد تحول سوبرمان من كونه عنيفاً بمساحة حرية واسعة من الضبابية الأخلاقية في التعامل من المجرمين الذين تختلف درجات جريمتهم دون أن يختلف العنف والقسوة التي يعامل بها سوبرمان كل واحد منهم، لاحقاً خفف جيري سيجيل من العدائية التي اشتهر بها سوبرمان وصبغ كثيرا من تصرفاته وردود أفعاله بقدر عالٍ من الشعور بالمثالية والمسؤولية وحسن السلوك وضبط النفس، بل إنه في العام 1940م لم تعد تظهر على صفحات الكوميكس تلك العلامات التي تسجل وفاة أي شخصية شريرة يهاجمها سوبرمان الذي لم يكن يلقي بالاً لما قد تسبب به قوته الخارقة من ضرر، بل إن ذلك ألحق فيما بعد ببيان يجري على لسان سوبرمان بأنه سيتقاعد عن أعماله البطولية لو مات أي إنسان في أي أحداث يشارك هو فيها. الجدير بالذكر أن الفيلسوف والروائي البارز "إمبرتو إيكو" له دراسة مهمة وفريدة من نوعها عن سوبرمان، يمكن من خلالها استقراء هذه الشخصية بشكل أكثر عمقاً وألقاً. اليوم وبعد هذا العمر الطويل متنقلاً بين العديد من الأجناس الفنية، يبدو سوبرمان مثالاً للاستقامة الأخلاقية فيما يخص نموذج مجتمعه الغربي، خلوق ومثالي ككل شيء فيه، وهو ما انعكس سلباً أو إيجاباً على الكثير من الأبطال الخارقين الذين تأثروا بشخصيته التي صبغت أفعالهم بشكل أو بآخر. سبايدرمان وباتمان، الشباب والرشد، العوز والثروة: في السياق التاريخي الذي تحدثنا عنه سابقاً كان باتمان هو الأسبق في الظهور قبل سبايدرمان، ولكن لو نظرنا من خلال منظور يراعي التقسيم العمري وأصول الأشياء فلربما يجدر بنا أن نتحدث عن سبايدرمان قبل باتمان، فقد قدم ستان لي لجمهور الكوميكس بطلاً مختلفاً، اليتيم بيتر باركر الذي يتربى في بيت الخالة ماري وزوجها العجوز بين، وهو في يتمه هذا مرتبط بباتمان الذي قتل والديه في سن مبكرة من عمره. في سن مراهقة مبكرة وعبر شخصية مدمرة بشكل بالغ، يتعرض باركر للدغة عنكبوت ستغير حياته للأبد، إذ يكتشف باركر قدراته الجديدة التي تتيح له تسلق الجدران بكل سلاسة وقدرته على التحليق عبر شبكة العنكبوت التي يفرزها وخفته وسرعة ملاحظته ورهافة حسه، مما يجعله يؤمن بقدرته على التغيير، ومع تعرض خاله بين للقتل على يد لص مسلح، فإن شعوره بالذنب يتعاظم لعدم قدرته على حمايته، وهذا الشعور بالذنب سيكون إحدى المشكلات التي ستطال شخصية باركر ضمن جملة مشكلات خطيرة أخرى، مثل خوفه من الارتباط بعلاقة عاطفية، عقدة أوديب، الحس العصابي، العوز، والشعور بالعدائية نحو المجتمع المخملي حوله، تربص السلطات واشتباهها في نواياه، الألم الذي يعتصره في خياراته في الحياة والعلاقات وعمله وارتباطه البالغ بالشخصيات التي ستتحول إلى مسوخ مجرمة فيما بعد، إن قصة سبايدرمان بحق شبكة معقدة من الإحباطات النفسية والعقد المتراكمة والعلاقات الاجتماعية التي تنحو نحو الدمار في أكثر من مفصل منها. أما باتمان فهو بطل خارق من نوع مختلف، فبغض النظر عن وسامته الصفة البارزة لمعظم الأبطال الخارقين، وربما ثرائه المختلف نوعياً عن غيره من الأبطال، على الرغم من أن غناه ضرورة بنيوية لشخصيته التي تتطلب هذا القدر من الثراء الفاحش، فهو ليس بطلاً خارقاً بالمفهوم المتعارف عليه، فباتمان إنسان عادي رغم كل شيء، هو ماهر جداً في فنون القتال التي تعلمها بعد قسمه بأن يخلص مدينة غوثام من المجرمين الذي سلبوها الأفراح، وهو قسم أخذه على نفسه بعد مقتل والديه، لكن تعلمه القتال بأنواعه لم يكن كافياً بنظره فقرر أن يمارس دوره تحت ستار ليل غوثام البهيم، وكأن ذلك القرار لم يكن كافياً، ليفاجئ بوطواط يدخل نافذة غرفته بالقصر، إذ يوحي له بفكرة الشخصية التي سوف يحملها منذ اليوم، ولتكون إحدى أشهر شخصيات الأبطال الخارقين وأميزها وأكثرها إثارة للجدل والنقاش. بروس واين ثري للغاية، زير نساء عتيد، محسن خيري يتصدق من أمواله الطائلة التي يجنيها من مصانع وشركات إمبراطوريته الرأسمالية في مدينة غوثام الغنية والممتلئة بالمجرمين والقتلة والمختلين والسياسيين الجشعين وغيرهم، لكنه في الليل يتحول إلى فارس الليل، وطواط كبير، ينقض بسرعة وعنف مرهباً قلوب المجرمين الذين تحتشد بهم غوثام. لعل من أبرز ما يميز الراشد باتمان عن المراهق سبايدرمان هو في ثقة المجتمع به في كلا الشخصيتين، فشرطة غوثام تستغيث به عبر إشارة ضوئية أنيقة، بينما يعاني رجل العنكبوت من المطاردة له من حين لآخر، أما على الصعيد النفسي فإن هناك بوناً شاسعاً بين الشخصيتين من حيث الاستقرار النفسي والحالة المالية وحتى العلاقات العاطفية والصداقات. الإنسان الخارق بعد الحادي عشر من سبتمبر: كما قلت في السابق فإن شخصيات كثير من الأبطال الخارقين كانت عرضة للتغيير، الأمر الذي بدا كنوع من الانقلاب عن الشخصية الأصل التي عرفها بها الجمهور من خلال الكوميكس أو الأعمال السينمائية أو التلفزيونية التي اشتهرت بها. باتمان مثلاً والذي عرف انتقالاً مدهشاً بعد أن تولى البريطاني "كريستوفر نولان" إخراج سلسلة أفلامه الجديدة منذ "البدايات" عام 2005م، و"فارس الظلام" عام 2008م، وفيلم "الصعود" في العام القادم، يبدو مختلفاً بشكل غريب في أفلام نولان عما عرفه عنها الجمهور، فإذا غضضنا البصر عن محاولة كتابة سفر جديد ومميز لقصة هذا البطل الخارق وهي عملية إبداعية نفذها نولان باحترافية تليق بسمعته التي تسير بها ركبان السينما، فإن التغير على صعيد شخصيته الظاهرية سطحي للغاية من حيث صورته العابثة الطائشة التي تليق بمليونير يحرص على إبهار النساء في حفلاته الخيرية ونشاطاته الاجتماعية المزيفة، إلا أنه من الداخل وفي العمق يبدو متأزماً أكثر من قبل، خياراته الأخلاقية تدهورت بشكل كبير، فهو يستبيح لنفسه التجسس على الناس والاعتداء على حقهم في السرية لتحقيق الأمان لهم، يؤمن بالنظريات الحربية العنيفة مثل مفهوم الضرر المصاحب والضحايا الضروريين، إنها لهجة إدارة الصقور الجدد، أمريكا ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، وهو ما يبدو جلياً في فيلم "أيرون مان" لجون فايفيرو عام 2008م، الذي لا يختلف في أطروحاته كثيراً مع استبدال مكان أحداث قصة الكوميكس الأصلية من فيتنام إلى أفغانستان، ومن حقبة الحرب الباردة إلى حقبة الحرب على الإرهاب، بطل خارق آخر يخفي تحت درعه المتطور أحد المحافظين الجدد من الجمهوريين الأمريكيين. في "الحراس – واتشمن" الفيلم الذي أخرجه زاك سنايدر عام 2009م، عن رواية كوميكس مصورة كتبها ألان مور ورسمها دايفغيبونز، ونشرتها دي سي كوميكس في اثني عشر عدداً من عام 1986 وحتى 1987م، نشاهد عنفاً غير مسبوق في أفلام السوبرهيروز، واختلال أخلاقي مريب لأبطال يفترض أنهم حماة للعدالة، ومع أن الفيلم يتوغل كثيراً في دراسة المفهوم الأساسي الذي قامت عليه السلسلة المصورة وهي النظر من خلال زاوية مغايرة، حول نظرة المجتمع تجاه البطل الخارق، إذ يمكن أن نستبطن العنوان الحقيقي للسلسلة بحيث يكون "من يحرس الحراس"؟، فالتيمة التي ظل يحتفظ بها العمل وبشكل غير مسبوق، هي النعي العميق لمفهوم البطل بشكل عام والبطل الخارق على وجه الخصوص، وهو ما تم إنجازه من خلال سياق اجتماعي مركز، مشحون بمختلف المشاعر والعواطف البشرية، إنها خطاب شجب واستنكار لأمريكا ريغان في وقتها وأمريكا بوش لاحقاً التي حقنت مشاعر الكثير حول العالم بكراهية بالغة نحو أمريكا. ربما لا أجازف في القول كثيراً بأن سلسلة "ألحراس/المراقبون" هي أنضج عمل كوميكس تم تحقيقه، ورغم اختلافه في تحقيق مفهوم البطل الخارق الذي تمجده الروايات المصورة الأخرى، حيث يقوم بعملية تفكيك هذا البطل وعرضه مجرداً عارياً من كل قوة خارقة، فإنها لم تخل من عنف بالغ جعلها لا تختلف كثيراً من هذه الناحية عن بقية قصص الكوميكس ذات الرواج الكبير، في سوق تنحو نحو الازدهار من جديد.