تواصل صفحة «مساحة زمنية»، تتبع سيرة حياة الفنان الشعبي علي الخرندا (مواليد 1933)، مواصلة في الجزء الثاني من اللقاء، توثيق أحداث وتحولات مر بها الفنان السعودي؛ متحدثا حول العزلة وغربة الوطن بعد أن أصيب بمرض السل مطلع الستينيات وقرر البعد عن أهله وناسه.. كما تطرق «الخرندا» في هذا الحديث إلى تجربة تلحين وغناء لون «الصوت» الموسيقي الخليجي.. مؤكدا أنه الوحيد الذي غنى هذا اللون في المنطقة الشرقية. لنختتم معه بالحديث عن حالته الصحية الآن: داء السل.. والعزلة المريرة خلال عمله في "أرامكو"، أصيب الخرندا بداء السل بداية الستينيات، وهو الداء الذي فتك بكثيرين؛ ويتذكر الخرندا هذه التجربة بأسى في أبيات لحنها وغناها مبكرا كعادة المطربين الشعبيين؛ يستعيد منها هذه المقاطع، قائلا:" واضيم حالي يوم جس الطبيبي/ هلت دموع العين واذكر حبيبي/ قال الطبيب للنرس برزو له فراش/ هذا مريض مسكين تعبان حالي/ ودوه واستدعوا لحالي يداوون/ وجروح قلبي في ضميري خفية" إلى أن يشرح معاناته مع المرض قائلا: "سته اشهور ابمرقدي ماكل الزاد/ ماغير دمع العين مني يهلي/لا عم، لا خال..لفاني بزيارة.. كأني من "الأتراك" ما حد عرفني/ وشكثر خلان ولا جو عواد.. وشلون صحبتهم ابسرعة نسوني/ رفعت كفي للإله المجيبي.. وربي كريمٍ رجع الحال بالحال/ ورديت لعيالي وضميتهم ضم.. واحد اشمه وواحد احبه بالخد/ والختم ياجماعة صلوا/ على النبي المختار سِيد العبادي). غير أن هذه الأغنية لا تبوح إلا بقليلٍ مما واجه الخرندا من بؤس الحال؛ إذ بعد شفائه أعفي من العمل وأخذ يبحث عن وظيفة أخرى دون جدوى. ويتذكر ولده عبد الخالق قائلا: "كنا أطفالا ونتذكره جيدا عندما كان يذهب إلى أصحابه وجيرانه وهم يصدون عنه، بل وهنالك من "يتلطم"، متلثما، خوفا إذا مر نحوه؛ إذ لم يصدقوا أنه شفي من السل وعاد إلى أهله وناسه؛ حتى أنه إذا دخل مجلساً يهرب الناس منه واحدا تلو الآخر، ما دفعه إلى هجر بلدته والذهاب إلى المزارع المحيطة بسيهات؛ حسبما يشير عبد الخالق مضيفا: "حزنه الشديد لردة فعل الناس دفعته إلى الانزواء بعيدا، حيث سكنا طوال الستينيات، كوخا من الأخشاب والسعف على شكل "صنادق"؛ وقد استنزفت هذه الحياة والدي بشكل كبير، لدرجة أنه فقد كامل مدخراته، فعملنا في الأرض وكنت وقتها في المرحلة الابتدائية". عودة السبعينيات: أما أصدقاؤه الذين أسسوا معه الفرقة تداركوا الأمر، متأخرا وطلبوا من "الخرندا" العودة إلى "الديره"؛ إلا أنه رفض بداية، وبقي يعزف في وحدته للغرباء؛ حيث كان كوخه الصغير وسط غاباتِ نخيلِ الستينيات، بين ينابيع المياه العذبة؛ أشبه بلوحة طبيعية، لا ترتسم بكامل أبهتها إلا في ذاكرة "الخرندا" المصر على التشبث بالمكان وهو يغني الغربة والحنين والحب هناك لزوجته ولأطفاله وأيضا لبعض للعمال والفلاحين العرب (عمانيون ويمنيون) والمزيد من المارة المتعجبين؛ إلى أن عاد مطلع السبعينيات إلى بلدته التي توسعت أكثر، ساكنا في طرفها المحاذي للمزارع التي احتوته سنوات الوحشة وغربة الداخل. بيت الخرندا والأثر الشعبي: كان لمجلس الخرندا الطربي منذ السبعينيات وحتى مطلع الألفية الثالثة، أثر كبير على شريحة الشباب تحديدا، حيث كان بمثابة المتنفس شبه الوحيد لمريدي وعشاق الموسيقى الشعبية في المدينة ومقصدا فنيا لأهل وزوار المنطقة الشرقية؛ إذ بالإمكان، الإصغاء في هذا المجلس إلى الكمنجات وهي تجر الوتر الحزين، وإلى العود وهو يراقص إيقاعات الطرب الشعبي. كما كان البيت حلقة التقاء فناني وملحني الشرقية؛ وساحة الاستمتاع بالإيقاعات الموسيقية وألوانها المختلفة؛ وهنا يعلق الخرندا " بيتي بقي مفتوحا أربعون عاما؛ جاء إليه الكثيرون وتعلموا العزف على مختلف الآلات؛ حيث كان المكان ملتقى الكبير و الصغير، هنالك من تعلم مني العود وينكر ذلك.. ولكن آخرون يذكرون ذلك. أجل هكذا كان بيت "الخرندا" الذي كان يفتح أبوابه ببهجة، ليال الخميس والجمعة من كل أسبوع. غناء "الصوت" و "الريف العراقي": كان جيل الخمسينيات منبهرا بعمالقة الطرب العراقي البغدادي وكذلك الجنوبي الريفي، كداخل حسن وحضيري بعزيز، الذي أعجب فيهما "الخرندا" كثيرا، وبرع في غناء هذا اللون إلى جانب غناء اللون البغدادي كناظم الغزالي ومحمد القبنجي، كما يشهد بذلك الفنان طاهر الأحسائي؛ في تسجيل مصور أذيع خلال تكريم الخرندا بجمعية الثقافة والفنون عام 2008. كما انفرد الخرندا من بين مطربي الساحل الشرقي، بغناء لون موسيقى "الصوت" البحري؛ حيث يشير إلى هذه التجربة قائلا: "إيقاع الصوت صعب وليس سهلا التقاطه لأي عازف أو مطرب؛ وقد تعلمته خلال ترددي على البحرين وقدمت أغنيتين فصيحتين من أغاني الصوت، لحنتهما بنفسي بعد أن قدم لي الأشعار ابني عبد الخالق الذي بدوره نقلهم من ديوان منسوب للإمام علي بن أبي طالب. ويضيف الخرندا مقدما رأيه في إيقاع الصوت: هو إيقاع تعلمه أهل البحرين والكويت. معلنا تحيزه للطرب البحريني، إذ يرى أن أهم مطربي الكويت الشعبيين لم يبرزوا إلى بعد أن انطلقوا وغنوا في البحرين كعوض الدوخي. سيهات فيها ظبي: من بين أشهر أغنيات "الخرندا" تأتي أغنية (سيهات فيها ظبي)؛ وهي أغنية تجسد ذروة الإعلان الغزلي في الطرب الشعبي، المجاهر بواقعية عارية في الغرام؛ عبر تسميات الأشياء كما هي دون محافظة أو إخفاء أو تردد؛ حيث نصغي إلى الأغنية التي غناها الخرندا مجددا ل"الرياض" ويتغزل فيها بفتاة من "ديرته"، ساردا تفاصيل وصفية غزلية فيها، إذ يقول: " سيهات فيها ظبي.. حسنُه سباني سبي/ لو يامر لو يبي.. لفديه حتى الفؤاد/ العيون سود وساع.. لوشافها السبع ضاع..تسبي فؤاده سبي/ الصدر بساتان فيه..رمان توه نبت/ وبشوف عيني ثبت/..ارما بقلبي سهام). ولم يغني الخرندا هذه الأغنية داخل مدينته سيهات وحسب وإنما سافر بها إلى الإمارات والبحرين والكويت حيث كان يغني خلال السبعينيات والثمانينيات في مجالس شيوخ وشخصيات اجتماعية في البحرين وعدد من دول الخليج العربي. المرض.. والعمر المديد: يعاني من مجموعة أمراض، تتعبه، وخاصة بعد أن أصيب بسرطان الحنجرة وافقده هذا المرض أعز ما يملك.. صوته الذي تضرر كثيرا؛ إذ قرر الطبيب أن يثقب خرما في رقبته عند الحنجرة؛ وهي حتى الآن مفتوحة؛ لأن الخرندا يخشى على تنفسه حال انسداد الفتحة.. وعن أمراضه يقول الفنان الشعبي الكبير: "الحمدالله على كل حال.. مرت علي أمراض كثيرة ومنها "الطراخوما" حيث فقدت عيني اليمنى وقلت فيها هذا الموال: عيني اليمين انعمت..باقي الشمال اشوي/ أشوف منها الصديق بس العدو اشوي". كما أصيب الخرندا بالسل والسكري وغيرها. أما حول علاقته بالغناء والعود رغم المرض فيقول: هو مؤنسي ورفيقي طوال مشوار الحياة الطويلة، لم يتخلَ عني يوما، فكيف أتخلى عنه؛ متذكرا رده على دعوة رجل الدين الراحل الشيخ عبد المجيد أبو المكارم له بأن يترك الغناء؛ قائلا: " قلت للشيخ مجيد انت مطوع وانا مغني وكل واحد في مجاله"!. الخرندا الذي ما كاد ينتهي من سرد هذه القصة حتى توجه لابنه البكر موصيا أن يدفن معه عوده وكمنجته في قبره؛ ثم ليضيف بدون أي ابتسامة: "وحتى المراويس". معلنا بالقول: سأموت قريبا ربما بعد ست أشهر. وهو ما دفعنا للقول "سلامتك يا بو عبد الخالق". إلا هذه النهاية التراجيدية لا تعني أن الخرندا شخصية عابسة غير محبة للحياة، بالعكس، فخلال لقائنا معه لم تفارقه النكتة والابتسامة، فهو ذو حس فكاهي وخفة ظل عفوية رغم محاصرة السقم ومتاعبه. هذا هو الخرندا.. لا يتقدم خطوة في الإيمان بالفن ليرجع خطوتين إلى الوراء!؛ مقدما درسا حقيقيا لمن امتزج إحساسه مع الفنون بصورة فطرية، عفوية، وأيضا مدركا بأن الفن والموسيقى ليست فقط للمتعة والتسلية، وإنما هي حالة وجدانية وإبداعية للتعبير عن ثقافة وتاريخ وحضارة أي أمة من الأمم. ضمن فرقة المشامع في السبعينيات يزرع أرضه بنفسه فرقة سيهات أو المشامع الشعبية في الخمسينيات ومن اليمين يظهر علي السليسي وسلمان بن عيد وآخرين