تتعدد في المملكة جهات التقاضي بصورة تحير أحياناً بعض المحامين وذوي الاختصاص، حيث تتنوع وتتبعثر بين عدة جهات قضائية وحكومية وهو أمر قد تنفرد به المملكة من بين دول العالم. فالجهات المختصة بالفصل في الخصومات والنزاعات تندرج تحت ثلاثة تصنيفات ريئسية وهي إما القضاء العام أو القضاء الإداري (ديوان المظالم) او اللجان (الهيئات) الإدارية ذات الاختصاص القضائي. فالقضاء العام والإداري منظمة ومفصلة اختصاصاته وفقاً لنظام القضاء ونظام ديوان المظالم. أما اللجان (الهيئات) الإدارية ذات الاختصاص القضائي والتي يزيد عددها على (70) لجنة أو هيئة فتستند كل واحدة منها في اختصاصاتها وأحكامها إلى نظام خاص بها صادر بمرسوم ملكي لتختص بفض المنازعات الناشئة عن تطبيق أحكام ذلك النظام، كاستثناء من اختصاص القضاء العام أو القضاء الإداري. ورغم أنه سبق أن صدر أمر ملكي عام 1426ه بشأن الترتيبات التنظيمية لأجهزة القضاء وفض المنازعات، كما صدرت آلية العمل التنفيذية لنظام القضاء ونظام ديوان المظالم الصادرين عام 1428ه وما تضمنتها من إعادة النظر في واقع تلك اللجان من حيث دمجها في القضاء العام أو الإداري أو استمرار بقاء بعضها كوضع استثنائي، إلا أن واقع تللك اللجان واختصاصاتها لم يتغير بعد من الناحية العملية. ومن هذه اللجان لجنة تسوية المنازعات المصرفية والتي تم تشكيلها بموجب الأمر السامي رقم 729/8 وتاريخ 10/07/1407ه والتي تعد من أكثر اللجان جدلاً في شرعية أو نظامية قراراتها، حيث لم تحظَ لجنة إدارية ذات اختصاص قضائي بجدل كما حظيت به هذه اللجنة، وهذا الجدل ناشئ أساساً من نقطتين جوهريتين وهما، أولاً أنها صدرت بأداة نظامية تختلف عن جميع اللجان الأخرى، فجميع اللجان تستمد تشكيلها واختصاصاتها وصلاحياتها وطبيعة قراراتها بموجب أحكام نظام صادر بمرسوم ملكي أي صادرة من الملك بصفته رئيس السلطة التنظيمية (التشريعية)، في حين أن لجنة تسوية المنازعات المصرفية صدرت بموجب أمر سامي، والأمر السامي كما هو معلوم لدى فقهاء القانون هو وثيقة رسمية ( ليس لها صيغة محددة ) تُعبر عن إرادة رئيس مجلس الوزراء أو أحد نوابه، أي من رئيس السلطة التنفيذية. والمنازعات المصرفية تعد من الأعمال التجارية طبقاً لنظام المحكمة التجارية الصادر بموجب مرسوم ملكي عام 1350ه، وبالتالي فإن جميع المنازعات المتعلقة بالأعمال التجارية تدخل في اختصاص القضاء التجاري والمتمثل حالياً بالدوائر التجارية في ديوان المظالم، لذا هل يمكن للأمر السامي (كأداة نظامية) أن يعدل أو يلغي ما ورد بموجب نص وارد في نظام صادر بمرسوم ملكي (كأداة نظامية). والأمر الجوهري الثاني هو الاختلاف حول تفسير منطوق الأمر السامي القاضي بتشكيل لجنة تسوية المنازعات المصرفية وخصوصاً الفقرة السابعة منه والتي تنص على ما يلي «على أنه إذا لم تتوصل (أي اللجنة) إلى تسوية مرضية للطرفين يحال النزاع للمحكمة المختصة للبت فيه». فهل المقصود هنا رضا طرفي النزاع أم رضا اللجنة ذاتها، ومتى يحال النزاع إلى المحكمة المختصة. وهذا الجدل كما أسلفنا لم ولن ينتهي بين الفريقين، فريق يرى بإلزامية ونهائية قرارات اللجنة وآخر يرى خلاف ذلك، وحيث إن القضاء هو الفيصل وصاحب الكلمة الأعلى في أي جدل فقهي أو قانوني لما له من ولاية في فض النزاعات وتطبيق نصوص الأنظمة وفقاً لاجتهاده كونه سلطة مستقلة بحد ذاتها لا تخضع لأي من السلطتين الأخريتين (التشريعية والتنفيذية) فقد حسم هذا الجدل من قبل المحكمة الإدارية بمدينة الرياض قبل أشهر قليلة وذلك بصدور حكم نهائي من محكمة الاستئناف الإدارية يقضي بعدم إلزامية قرارات لجنة تسوية المنازعات المصرفية في حال عدم رضا أحد طرفي النزاع. ولتسليط الضوء على هذا الحكم المفصلي والتاريخي نعرض فيما يلي وقائع الدعوى وحيثيات الحكم والأسباب التي استندت عليها المحكمة في حكمها الحاسم لهذا الجدل. حيث تتمثل وقائع تلك الدعوى في أن لجنة تسوية المنازعات المصرفية أصدرت قراراً لصالح أحد البنوك المحلية ضد أحد عملائه وذلك بدفع مبلغ من المال، ولم يرضَ العميل بقرار اللجنة، إلا أن اللجنة أصرت على قرارها وأرسلته إلى إمارة منطقة الرياض للتنفيذ، والتي قامت بدورها بالبدء في إجراءات التنفيذ استناداَ إلى نظام المرافعات الشرعية، ومن تلك الإجراءات منع العميل من السفر والتعميم على جميع أقسام الشرط والجهات الأمنية بالقبض عليه وإيقافه لإلزامه بتنفيذ القرار الذي صدر ضده من لجنة تسوية المنازعات المصرفية. لذا فقد تقدم من صدر بحقه قرار اللجنة بدعوى أمام المحكمة الإدارية بالرياض ضد (القرار) يتظلم فيها ويطلب من المحكمة إصدار حكم بإلغاء قرار ملاحقته ومنعه من السفر. واستند المدعي في دعواه بأن الجهات التنفيذية لا تملك الإلزام بالتنفيذ إلا للأحكام القضائية النهائية المكتسبة القطعية الصادرة من سلطات قضائية لها ولاية إصدار مثل هذه الأحكام على وجه الإلزام والجبر، في حين أن القرار الذي ألزمت به الإمارة المدعي بتنفيذه (قرار اللجنة المصرفية) هو قرار صادر عن جهة لا تملك ولاية الإلزام ولا إصدار الأحكام النهائية الملزمة، لذا فإن القرار بالتنفيذ يكون مشوباً بالعيب وبالتالي جديراً بالإلغاء. وقد طلب كل من مؤسسة النقد العربي السعودي والبنك المعني بتنفيذ قرار اللجنة التدخل في الدعوى لما لهما من مصلحة في عدم إلغاء قرار الإمارة محل الدعوى، وقد ارتكزت دفوع المدعى عليهم والمتداخلين في الدعوى على أن لجنة تسوية المنازعات المصرفية لجنة قضائية مستقلة وقراراتها منهية للنزاع بين الطرفين وأنه لا محل للنظر في نفس النزاع الذي فصلت فيه لدى جهة قضائية أخرى. وأكدوا على استقلالية اللجنة وإلزامية قراراتها وحيازتها حجية الأمر المقضي به. وبعد سماع المحكمة لحجج ودفوع كل طرف في الدعوى، والاطلاع على كافة المذكرات المقدمة من جميع أطراف الدعوى وبعد النظر في القواعد الشرعية والنظامية، فقد ثبت للمحكمة أن القرار الإداري الصادر عن الإمارة بالتنفيذ (محل الطعن) قد استند في سببه على قرار لجنة تسوية المنازعات المصرفية، وجعله سبباً لإصدار هذا القرار، لذا فإن القضاء الإداري يراقب الأسباب التي تبنى عليها القرارات الإدارية متى ما كان ذلك السبب ظاهراً في تصرف الجهة الإدارية، لذا فقد ثبت للمحكمة ما يلي: 1-أن الواجب على الجهة الإدارية (الإمارة) في حال إلزام الأفراد بمبالغ مالية وحقوقية، أن يكون استنادها إلى أحكام نهائية بذلك. 2-أن لجنة تسوية المنازعات المصرفية ليست لجنة قضائية بل ولا يصدق عليها مسمى اللجان شبه القضائية، فليس لهذه اللجنة إجراءات ترافع ولا درجات للطعن، كما أن في هيكلها التنظيمي تابعة لجهة إدارية تنفيذية هي مؤسسة النقد العربي السعودي. 3-أن الأمر السامي الصادر بتشكيل اللجنة قد وصف اللجنة بسمات صريحة لا يمكن أن يتصف بها أي مصدر من مصادر الأحكام القضائية، منها أنه سماها «لجنة» وهذا ينافي الصفة القضائية للقرارات إذ إن المتبع والعرف جرى على أن ما يصدر من اللجان هو في حقيقته قرارات إدارية وليست أحكاماً قضائية. ومن السمات أن الأمر السامي وصف عمل اللجنة بعدة صفات منها «دراسة القضايا» و «تسوية الخلافات» و «إيجاد الحلول المناسبة» وهذه كلها تصف حقيقة اللجنة بأنها لجنة إدارية تنظر في النزاع من هذا المنطلق الذي وردت في تحقيق معناه هذه العبارات، وهذه العبارات الواردة في نص الأمر السامي المؤسس لهذه اللجنة تنافي أهم السمات المركبة لمفهوم القضاء كالإلزام وفصل الخصومات والبت في القضايا. بل إن الأمر السامي نص بتصريح لا لبس فيه بهذا الشأن بنصه على أن المختص في (البت) هو المحكمة المختصة وهو بهذا النص ينفي عن قراراتها صراحة صفة الإلزام. في حين أن اختصاصات اللجنة حسب الأمر السامي لا تتجاوز أمرين وهما إما التوصل إلى تسوية مرضية للطرفين أو عدم توصلها إلى هذه التسوية المرضية. فإذا لم تتم هذه التسوية فيحال النزاع إلى المحكمة المختصة للبت فيه، مما يؤكد أن محكمة الموضوع ذات الاختصاص والصفة القضائية هي المحكمة المختصة أياً كانت وليست هذه اللجنة. 4-أن القول الذي أوردته مؤسسة النقد في معرض تداخلها في الدعوى من أن الرضا المنصوص عليه في الأمر السامي مناطة رضا اللجنة، فهذا دليل عليها لأن هذا يمثل في حقيقته استمراراً لواقع حال اللجنة الذي يتمثل في عدم فهمها وتطبيقها الصحيح لنصوص التنظيم الصادر بشأنها فالنص صريح بأنه (رضا الطرفين) فكيف تترافع مؤسسة النقد أمام هذه المحكمة ومن ضمن دفوعها هذا الدفع مع الصراحة الواضحة في التنظيم، ومع ذلك تصر اللجنة على اعتبار هذا الرضا منوطاً بها. كما أنه لا يمكن القول بأن اللجنة تصدر قرارها بمجرد رضاها وهذا ينافي في أساسه مفهوم التسوية. أما ما ذكرته المؤسسة من أنه سبق وأن صدرت أحكاماً قضائية من ديوان المظالم يفهم منها أن قرارات اللجنة المصرفية نهائية، فإن المبدأ المعمول به في الفقه والقضاء هو مبدأ العدول عن الأحكام المستقرة بالضوابط المعتبرة أساسه تغير الاجتهاد القضائي. وبناء على ما ورد أعلاه ثبت للمحكمة الإدارية أن السبب الذي تأسس عليه القرار الإداري محل الطعن ليس جديراً بالاستناد عليه ومن ثم يكون السبب اللاحق للقرار الإداري والمؤدي للحكم بالإلغاء متوفراً في هذه الدعوى، وعليه حكمت المحكمة بإلغاء قرارالإمارة بإلزام المدعي بتنفيذ قرار لجنة تسوية المنازعات المصرفية، وتم تأييد هذا الحكم من محكمة الاستئناف الإدارية قبل أشهر قليلة فقط. لذا فإنه برائي ما وصلت إليه المحكمة الإدارية من اجتهاد قضائي ليعد تصحيحاً طال انتظاره لواقع غير نظامي استمر سنوات طويلة يثير معه التعجب للسكوت عنه خصوصاً من الجهات القضائية ذاتها، فإن كان من مصلحة البنوك ومؤسسة النقد بقاء وضع اللجنة على ما هي عليه، فإنه ليس من مصلحة العدل أن تضيع حقوق الناس في التقاضي بذريعة خصوصية واقع البنوك وعملياتها المصرفية والرغبة في إبعادها عن ساحات القضاء الشرعي، فإذا كان هناك رغبة في استثناء العمليات المصرفية ومنازعاتها من القضاء العام أو الإداري فليكن ذلك وفقاً للقواعد النظامية بأن يتم إصدار نظام خاص بذلك بموجب مرسوم ملكي يحدد فيه اختصاصات الجهة المعنية بالفصل في المنازعات المصرفية وأن تشكل من درجتين يضمن فيها جميع حقوق التقاضي كما هو الحال في لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية أو الهيئات العمالية، وأن تكون مستقلة تنظيمياً عن مؤسسة النقد وليس كما هو الحال الآن في واقع لجنة تسوية تحاول اغتصاب الصلاحيات والإلزام بقراراتها دون أن يكون لمن صدر بحقه القرار أن يستأنف أمام جهة أخرى، ويحرم المتضرر من أبسط ضمانات التقاضي. فكيف لمن لديه منطق بسيط أن يتصور أن نزاع بين بنك وعميل قد يصل إلى مئات الملايين يتم البت فيه من جهة واحدة ومن درجة واحدة دون أن يكون لمن صدر بحقه القرار أن يستأنف أمام جهة أو درجة أعلى، بل وكيف يمكن بعد ذلك أن يزعم أحد أنه قد توافر لأطراف النزاع ابسط حقوق العدالة وحال لجنة تسوية المنازعات المصرفية ما ذكر، قبل أن تحسم المحكمة الإدارية مسألة عدم إلزامية قرارات لجنة تسوية المنازعات المصرفية والذي طال انتظاره ربع قرن من الزمان. * مستشار قانوني [email protected]