الناس حائرون.. يفكِّرون.. يتساءلون.. ويعتبون.. ووجه (جدة) بعدُ لم يجف.. ولن يجف في غضون أشهر بسيطة ولا كبيسة! فهذه أحياؤها.. وشاهدٌ - مثل أم الخير - من أهلها، يشهد ذكرى عام.. فلم يزل يُطل، على بحيرات وفيرة، من مطر العام التي حال عليها الحول بالتَّمام! ومهما يقولون.. «مهما صار مهما تم».. أحب هذه المدينة (البرمائية) المسكينة الحزينة! غنيت لها مع (البدر) ولكن على طريقتي: يا طفلة تحت المطر (تغرق) وأتبعها بنظر (تبكي) على الثوب الجديد، ابتل.. وابتل الشعر.. وبدلاً من (ليلة الحناء) التي تتجمل بها العروس تخضبت عروسي بالطين قبل أن تزف بعفشها إلى عرض البحر! في ليلة حالكة السواد، تلطم رياحها الخدود والأبواب، أقول مثلما قال بدر شاكر السيّاب: عيناك غابتا نخيل ساعة السَّحر أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر لكنها منقوعة.. في فمها ماء: تصعد وتطفو.. تبحث عن يدين، ممدودتين للغريق: تلتقط الأنفاس تنشد الحياة: فتستفيق مثل روحي رعشةُ البكاء ونشوةٌ وحشية، تعانق السماء كنشوة الطفل إذا خاف من القمر! * * * لا تعجبوا إن خاف طفل من مطر.. كيف يخاف الطفل من المطر.. لابد أنها قد علقت برأسه الصغيرْ، ذكرى مرور البحر في الشوارعْ.. بحر بلا سفنْ.. بحرٌ بلا رصيف.. بحر بلا مواني! * * * «إذاعة جدة»! «نسمع أصواتا تشبه العويل والصراخ».. «ريح باردة.. وغيوم داكنة».. «عينان تبحلقان في الأبواب المتهالكة والنوافذ».. «لايزال المطر يتدفق.. المساوئ لا تلد إلا من رحم الظلام»! عبارات استمعت إليها في ليلة (غرق جدة) من (اذاعة جدة).. ولولا أنني - والمستمع طبعاً - يميّز الدراما عن برامج مواكبة الحدث لظننت وظنَّ وظنّت أنها تتحدث عن ليلة جدة.. إنه برنامج (المسرح العالمي).. تصوروا! برنامج مسجل.. أعقبه آخر مسجل.. تبعه ثالث وهكذا دون أن تكون لها أي علاقة بجدة ولا بما حولها من مدننا التي يصب عليها المطر صباً! موظفون.. وموظفات.. وطلبة وطالبات.. كانوا يعلقون آمالاً على اذاعة جدة.. تنقل أصواتهم وهم محتجزون إلى الدفاع المدني وإلى أهليهم.. يبحثون عن اذاعة اسمها (جدة) تقول لهم ماذا يفعلون وأى شوارع يسلكون.. لكن الاذاعة مشغولة ب(المسرح العالمي) عن العائم (المسرح العائم) تحت سمعها وبصرها.. ولا يجد الناس مبرراً لهذا الغياب ولن يتذرع أحد ب(الخوف مما لا تُحمد عقباه)، فلم يحظر أحد على وسائل الإعلام المرئية والمقروءة وحتى المسموعة طبعاً أن لا تواكب الحدث ببث مباشر وهي الأسرع والأدنى والأقرب في البيت والسيارة وحتى أماكن العمل.. إن ما لا تحمد عقباه هو وهْم ظل قابعاً في رؤوس من قصرت هممهم وإلا فها هي الاخبارية وغيرها وها هي الصحف تناقش.. وتحاسب.. وتوجه.. وتنتقد ولم يوقفها وزير الثقافة والإعلام عن الصدور.. لكن إذاعة جدة (غابت) عن حدث (جدة) إلا من تغطيات متقطعة بينما انطلقت واحدة أو أكثر من إذاعات ال(اف.ام) المحلية لتواكب الحدث وتعيش مع الناس طوال الليل! ولأنها إذاعتي، هي وشقيقتها إذاعة الرياض، فإني اعتب على الأولى لأنها أقرب من هذا الحدث! سامحونا.. إنها فضفضة.. أعرف سلفاً أن إذاعتنا ستحسبها عليّ! *سطر أخير: قبلة على جبين كل المخلصين..