كانت الصحراء تغط بهدوء مضيء ، يكتنفه وهج روح حلّقت في أعالي الوقت طويلاً دون أن تهتدي لأثر يدلها على طريق الصعود لأعالي الحياة وبريقها الممتد على حواف الكون وأطرافه المتدلية كتدلي أطراف شجرة وحيدة ّ! في تلك اللحظة التي لا يزال صوتها يدوّي في أنحاء الروح انطلقت رصاصة الشعر الأولى في ذهني وأنا أسمع قصيدة محمد السديري " يقول من عدّا"، في مجلس والدي في قرية حالة عمّار في أقاصي حدودنا مع الأردن، وزّهت هذه القصيدة نفسها بين الحضور ولم تحط حمامتها على أغصان دهشتي غلا بعد أن اكتملت الصورة وامتزج وجودها في داخلي بما تأملته وتخيلته وأنا أراها تحلّق في أفواههم وهو يرددونها بشعور تداخلت فيه الدهشة بالحزن والتأسي على وفاة الشاعر، المجلس لم يكن مستوعباً لحضوري في ذلك الوقت، لكنني استطعت أن أدرك مدى التشابه بين بعض القصائد وبين الصحراء بحكمتها وتألق الوعي على حوافها، فمنها حين تداهمها رياح الغيث تنهمر ألوان الحياة زاهية، تلك القصائد التي صاغها الشاعر محمد السديري كانت تعبيراً مبدعاً عن صحراء لفت في عباءتها دهشة غامضة ومبهجة، ونفذت برائحتها إلى كل القلوب، تحمل عبق الشيح وأنفاس الأودية المتموجة في فلك الصحراء الأسطوري، وسكونها العميق. فالسديري شاعر الصحراء ، وروائي الصحراء، المسكون بأوجاعها والمحاط بكل تفاصيلها، يكتب برائحتها وتنزف أصابعه الحبر بطعم شجيرات العرفج والرمث العالقة بأنفاس أبنائها الذين عشقوا براءتها وجمال الحياة فيها، يستنشق حكمتها بحب فتمنحه وهجها وحيويتها الدائمة. ففي كل ما رسم من لوحات شعرية فاتن، كلوحة "يفوح ناظرها كما عين هدّاج، إشارة لبئر هدّاج الشهيرة في تيماء بتبوك، وهو مورد ومنهل معظم شعراء العربية والعامية، ولوحة" شي ٍ أبا آقوله.."وغيرها من اللوحات المثيرة للحواس، وهو شعر تقليدي متألق في سياقه الزمني ومقبول إلى آخر الأزمان؛ بما يحمل من ورؤية عميقة للحياة واشتباك جريء معها، ولعلنا حينما نعيد قراءة القصائد برؤية معاصرة نكتشف البعد الخفي في تلك الحكمة التي مازالت الأجيال بحاجة ماسة لها، مع التأكيد على أنها حكمة أتت بصورة تلقائية دونما تعسف أو قصد وهذا مايتلائم مع عدم اهتمام الشعر الحقيقي بالقول المباشر إن لم يكن خارجاً من حالته ذاتها!!