يدور نقاش ديني عن موضوع الفتوى مثيراً استشكالاً عقدياً وفكرياً وثقافياً، فهناك من المفاهيم ما يتم تسويقها على أنها في حكم البديهيات، لكنها عند النقاش الموضوعي الجاد تتكشف أنها مجرد سراب مشكوك فيه، فيمكن سماع الفتوى ويستغرب المرء أنها لا تقف على ساق ولا تقوم على دليل صحيح صريح يؤدي للقناعة. فاليوم تعيش الأمة الإسلامية زمن سطوة الفتوى على الحياة العامة، ومن يتأمل الفتاوى التي تتداولها وسائل الإعلام وتقنيات المعرفة المعاصرة في العالم الإسلامي، سيجد أنها أسرت المسلم فأصبح يسأل الشيخ عن حُكم الدين في كل تفاصيل حياته التي لا علاقة للدين بها. وبمقارنة بسيطة بين مضمون الفتاوى اليوم ومثيلاتها قبل ثلاثة عقود، سيجد الإنسان أن المفتى أصبح هو الطبيب والمهندس وعالم النفس والخبير التربوي، حتى بات الفلاح بحاجة إلى سؤال المفتي كيف يلقّح النخل!. فكان لتدخل خادم الحرمين الشريفين ضرورته، وذلك كعادته في معظم القضايا الساخنة التي تهم أمر الإسلام والمسلمين بعامة وأبنائه ومواطنيه بخاصة فكان من حقه وأوجب واجباته، أن يتصدى لهذا الأمر الخطير المغلق لساحة سماحة فتوى أمة الإسلام المعتدلة، كما كان من حق المسلمين أن يفرحوا مهللين متقبلين لنتائج الأمر الملكي بتأصيل أمر الفتوى وحصرها على أهل العلم، فكان الأمر الملكي مواساة لكل مسلم غال ومسلمة غالية، وكانت كلمات الأمر الملكي تسلية وتخفيفاً لجميع المسلمين من ألم الفتوى العمياء، بل كان بياناً للحكم الشرعي ويزيل الملابسات التي قد تحدث في حال غياب الفتوى المعتدلة، ليضع حداً للمعاناة المنطلقة من النظريات العمياء، والفوضى التي أثرت في النشء والعوام منذ انبثاقها خلال السبعينيات من القرن المنصرم والمبنية على الإساءة للمجتمع والسخرية بفقه الأئمة الأربعة أو التجريح والشتم بالألفاظ النابية وكل أنواع التحريض على العلماء العارفين المعتبرين في الفتوى، الذين أوجب الله قبول إنذارهم وفتواهم قال تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم)، قال ابن حجر: «فإنه سبحانه نوع عبوديتهم وقيامهم بأمره إلى نوعين: أحدهما: نفير الجهاد، والثاني: التفقه في الدين، وجعل قيام الدين بهذين الفريقين، وهم الأمراء والعلماء أهل الجهاد وأهل العلم، فالنافرون يجاهدون عن القاعدين، والقاعدون يحفظون العلم للنافرين، فإذا رجعوا من نفيرهم استدركوا ما فاتهم من العلم بإخبار من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم» «فتح الباري 3/54». كما كانت الفتاوى المتشددة والشاذة. حرباً على هيبة وشوكة ولاة الأمر الواجب طاعتهم بنص القرآن الكريم: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) «النساء 59» وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني). «البخاري» وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف) «البخاري» وعلى ظواهر هذه الأدلة كانت فتوى الجمهور من الفقهاء المعتبرين وعليها سار أهل القبلة أجمعين قال الطحاوي: «ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة» «العقيدة الطحاوية ص540». فكان أمر خادم الحرمين الشريفين البلسم الشافعي والعلاج الناجع بقصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء، مستثنياً الفتاوى الفردية في أمور العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، وكما شرط الأمر الملكي أن تكون الفتوى بين السائل والمسؤول، وبهذا الأمر المبارك تنفس المجتمع المسلم الصعداء وهبت رياح النصر على قوارب المتسلقين والانتهازيين الذين ليس لديهم مقومات الفتوى الشرعية فقطع دابر دينصورات ديكور الفتوى الغاشمة، ما أبركة من أمر ملكي فهو خير كله وحماية للأمة المسلمة حتى لا تحدث الفوضى في مجال الفتوى وخاصة الشاذة منها. لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا ويفيد الأمر الملكي مشدداً على منع شواذ الفتاوى والآراء المرجوحة، والأقوال المهجورة، متوعداً كل من يتجاوز الأمر الملكي سيعرض نفسه للمحاسبة والجزاء الشرعي والحكم الرادع كائناً من كان. قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم عن النساء ولو باتت بأطهار فالأمر الملكي الجاد شدد خادم الحرمين فيه كثيرا وشمر عن ساعديه لأنه أمر في العقيدة، ومصلحة الدين والوطن همُّ خادم الحرمين، مقدم عنده فوق كل اعتبار. وعماد منهج الأمر الملكي قول الحق جل وعلا (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وقوله (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا)، وقوله (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ). فكان الأمر الملكي منهج دقيق، تطمئن إليه النفس ويركن إليه القلب، يرتضيه العقل، وفي الأتر (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم). وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم، الذين نقلوا لنا أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه عدولا ثقات، لا يتقولون عليه، ولا ينسبون إليه ما لم يقله أو يفعله. ولكن مع ظهور قرون الفتن، وانتشار الأهواء، بدأ يتسرب الكذب، إلى سنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الكل يريد تأييد دعواه وهواه بقوله ينسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لان كلمته هي الحجة البالغة، والفيصل الحق قوله جل جلاله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ). والأمر الملكي يحمل في طياته التفرّيق بين الفتوى والرأي، مواكباً لقول أهل السنة وقواعدهم «من فروع التقوى في الفتوى أن يتقلل منها ما استطاع، ويدفعها عن نفسه، ولا يتصدى لها إلا وهو مضطر». فكان الأمر الملكي هو الأساس القويم الذي حفظ لنا حمى الفتوى ورشدها، وبين خطورة التجاوز عليها، والوقوع فيها، فترسخت في نفوس المواطنين المؤمنين المفاهيم الحضارية المهمة في شأن الفتوى وحدود الشرع الحنيف. ولم يكن المقصد من خادم الحرمين الشريفين في رسم خارطة طريق الفتوى إلا تعظيماً لدين الله من الافتئات عليه من كل من تأبط شهادة من معهد ديني أو كلية شرعية، لا تؤهل لاقتحام وتسور باب الفتوى الضيق الصعب الركوب، بل منهم من يجادل في الله، أي: في توحيده وإرسال الرسل، ومجادلته في ذلك بغير علم، ولا مستند من حجة صحيحة، ولا كتاب مأثور صحيح، ولهذا قال تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) أي: مبين مضيء، فضلاً عمن لا يملك آلةً ولا فهماً؛ ليجادل في دين الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وإنما هو التطفل على مائدة الشرع، لفتاوى شاذة خارجة عن إجماع العلماء وأهل القبلة أجمعين، متعدياً ومتحدياً صلاحيات مؤسساتنا الشرعية أداة الاحتساب، ما يربك عملها الديني ويسلبها صلاحيات الفتوى الملزمة، ويفرغها من محتواها الإيماني، بسخرية واضحة وميل صريحة للفوضى والخلل، ومنهم من ينافق فيناقض نفسه بإعلان حرصه على هذه المؤسسات وتزكيتها، وعدم النيل منها، ثم يلغي بفتاواه الخاطئة دور المؤسسات الشرعية المعتمدة من ولاة الأمر. لذلك فعلى الجميع أن يتقوا الله خصوصاً ممن لا صلة لهم بأمور الدين وغير مؤهلين لمثل هذه القضايا من الفتاوى الشرعية التي قول المفتي فيها الفيصل القاضي.. وعلى هؤلاء ألا يجعلوا من مؤهلاتهم بوابة للاقتحام في أمور تهم البلاد والعباد. والله من وراء القصد.. * جامعة أم القرى