عندما قرأت فصولا من التقرير الأخير الذي صدر مؤخرا في دبي عن الوضع المعرفي في العالي العربي لم أستغرب كثيرا فمنذ بداية صدور التقارير المتلاحقة حول الوضع الثقافي في العالم العربي عام 2002م لم تتغير الاحوال كثيرا إلا في مستوى الوعي المجتمي العربي العام الذي صار يكتشف مشكلاته المعرفية والثقافية وبأسلوب يحرك الجرس كل عام ولا يدع مجالا للنسيان. رغم كل ما تحمله هذه التقارير من سلبيات ورغم كل مؤشرات الاحباط التي تدفع بها نحو المثقف العربي إلا أنها تتيح الفرصة بحق للإصلاح الحقيقي (لا الوعود الحجرية التي لا تتحقق ابدا) لأنها ببساطة تذكرنا بما وعدنا به وبما أخفقنا أن نحققه. هذه التقارير ليست مثل القرارات التي تعتمد على ضعف الذاكرة المجتمعية حيث تصنع الوعود ولا يتم تنفيذها اعتمادا على هذا الوهن، بل هي تقارير تصدمنا كل عام وتذكرنا بكل ما يجب علينا فعله وتقول لنا اننا وعدنا ولم ننفذ، فشكرا لفكرة "الصدمات" الكهربائية التي يحتاجها العالم العربي لأن هذه التقارير هي فعلا مثل الصدمات التي يمكن أن تنشط القلب والعقل. يقول التقرير الأخير اننا لا نستثمر في "رأس المال المعرفي" وهذا حق ويقول ان لدينا 60 مليون عربي "أمي" لا يعرف القراءة والكتابة ثلثاهم من النساء، وهو يشير هنا إلى إهمالنا الكبير للمرأة كونها تأتي دائما بمرتبة ثانوية في مسألة التعليم والعمل. كما أنه يفضح إشكالات البنية الاساسية على مستوى الاسرة والمجتمع فهناك 19 مليون طفل عربي في سن المدرسة لا يلتحقون بالدراسة وأنا أقول هنا ان أكثر من نصفهم يهيمون في الشوارع فظاهرة أطفال الشوارع تكتسح المدن العربية حتى أنها أصبحت الظاهرة الاكثر خطورة على مستقبل المجتمع العربي. كما أننا أمة لا تقرأ فلكل 20 ألف موطن عربي تقريبا (أو يقل قليلا) كتاب مقارنة ببريطانيا التي لا تتجاوز نسبة 450 مواطنا لكل كتاب، ويبدو أننا فعلا نمر بكارثة معرفية حقيقية على كافة المستويات فلا يصرف من الدخل القومي على البحث العلمي إلا الفتات ولماذا يصرف اصلا طالما أنه لا يوجد قاعدة اقتصادية تصنيعية تعتمد على البحث العلمي. في اعتقادي أن المشكلة لا تعتمد فقط على التوسع في التعليم العالي فليس من المجدي ان نقبل طلاب الثانوية جميعهم في الجامعات ولا نعلمهم بشكل سليم ولا نصنع لهم مجتمع اقتصادي معرفي يحتضنهم ويوظف معارفهم. لقد توقفت كثيرا في التقرير عند مسألة "الحريات" وربطتها بفكرة الحرية الاكاديمية التي هي مفتاح المعرفة الحقيقية، فنحن بحاجة إلى من يعي قيمة المعرفة ويبدع في انتاجها وتوظيفها لا من يتلقفها بشكل غير واع وفي اعتقادي أن مشكلة المشاكل في العالم العربي تكمن في غياب الحريات المعرفية خصوصا في البيئة الاكاديمية، فالجامعة ليست هي المكان الذي تصنع فيه المعرفة وليس هو المكان الذي تتشكل فيها الشخصيات المعرفية والعلمية بل هي مكان "لتسيير" و "تيسير" مسألة التدريس الروتيني الذي ترى فيه الحكومات العربية الجزء المكمل لشرعيتها ولإعطاء الانطباع برعايتها للمجتمع. والحقيقة أن غياب الحرية الاكاديمية عطل التنمية المعرفية التي تتنافس على اكتسابها الامم، ولعلنا الان أما معضلة جائحة الانفلونزا وكيف ان الدول تتسابق لتطوير لقاح ضد المرض. الدافع هنا ليس فقط من اجل حماية الانسانية بل هو "الاقتصاد المعرفي" فجميع مراكز البحوث في العالم تتنافس اقتصاديا في مجال المعرفة وهذا الجزء مغيب بشكل كامل في المنطقة العربية لأن الجامعات العربية مؤسسات حكومية مثقلة بالروتين والبيروقراطية وهذه بيئات لا يمكن أن تنمو فيها المعرفة. تقرير المعرفة العربي يركز على البديهيات وعلى الاساسيات المفقودة اصلا في الوطن العربي ولا أريد هنا أن أكون متفائلا أكثر من اللازم واندفع نحو أمنيات غير قابلة للتطبيق ولا حتى قابلة أن نفكر فيها في الوقت الحالي فنحن أمام معضلات "تأسيسية" غير مفكر فيها. لكن التقرير دون شك يهزنا بعنف لأنه يشخص المرض أمام عيوننا ويقول لنا إما أن نبدأ في التحرك الآن وإلا سيكون التقرير القادم أكثر قسوة لكني لا أتمنى أن نفقد الاحساس من كثرة الصدمات فنكيف أنفسنا كما كيفناها على كثير من الاشياء التي لم نكن نقبلها في السابق. العالم العربي يستحق افضل ويستحق ان يشارك في بناء الحضارة الانسانية وهذا ليس كلاما عاطفيا فقد تقرر مؤخرا أن تدرج العربية كلغة لتعريف المواقع على الشبكة العنكبوتية والغريب انني سمعت من ينتقد هذه الخطوة من العرب انفسهم، والذي يبدو لي أن هؤلاء فقدوا الرغبة في تقبل التحديات وصاروا يتعاملون مع الواقع باستسلام، فحجتهم ان العربية تختلف في بنيتها عن اللاتينية الأمر الذي سيجعل من قراءة المواقع الالكترونية صعبة. الحمد لله أن العربية أدرجت عالميا لا بيد العرب انفسهم والحمد لله أنها ستخلق تحديات لقراء العربية وإلا لن يتحرك أحد لتطوير هذه اللغة، والحمد لله أن العالم العربي مازال فيه نبض اقتصادي يحث الشركات الكبرى على التفكير في العربية كلغة فاعلة في العالم وهذا ما لن يفعله المشتغلون باللغة العربية والمهتمون بها حتى لو انتظرناهم قرونا. المعرفة واللغة والتعليم أركان اقتصادية يجب أن نفكر فيها من هذا المنطلق وإلا لن يتطور أي منها. إننا نعيش عصر اقتصاد المعرفة لا عصر التوسع في التعليم دون هدف. ويبدو أن هذه الرؤية الاقتصادية غير مفكر فيها بشكل جيد لأن الأمر هو بناء صورة غير واقعية تريد أن تصورها الحكومات العربية عن مجتمعاتها دون أن تربط هذه الصورة بفعل اقتصادي حقيقي وهو الأمر الذي يزيد من حدة تراجع المعرفة في العالم العربي لأن منطق الاشياء يقول ان لكل مجال اقتصادياته والمعرفة لها اقتصادياتها التي يجب ان نتعامل معها بجد وإلا سيكون التقرير القادم وحتى بعد عشرين سنة يحمل نفس الارقام المخجلة التي حملها تقرير هذا العام.