الحلم عكس الغضب في الموقف الذي يثير الغضب، ما لم يُمَس الدين الحنيف، وكما ان الغضب منتشر في البشر انتشار النار في الهشيم، فإن الحلم نادر وان الرجل الحليم فيه صفة رائعة لا يلقاها إلاّ الذين صبروا ولا يلقاها إلاّ ذو خط عظيم، وقد ورد في الحديث الشريف «ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب». قال الأصمعي- الذي عرف الناس وعاشر مختلف البشر وجاب الصحارى والمدن - : (لا يكاد يوجد عشرة إلاّ وفيهم فارس وأكثر، ولكنك تبحث عن الحليم بين مائة فلا تجده). قلت: فالحلم فروسية من النوع الراقي، يصرع فيها الفارس غضبه وهواه وانفلات أعصابه، ويتحكم في نفسه بشكل عجيب، مع قدرته على معاقبة المخطئ، ولكنه يعشق الحلم ويؤثره، وهذا منتهى رجاحة العقل، والذي من أسمائه (الحلم) أيضاً، أعني العقل، فهو إذا كمل تمازج مع الحلم حتى يصبحان روحاً في جسد. وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كفى الحلم منزلة ان الناس أنصار للحليم على الجهول) والجهول هو العنيف الغضوب الذي لا يعرف التأني.. وقد أخذ المعري هذه الحكمة في شعره فقال: (والحلم أفضل ناصرٍ تدعونه فالزمه يكفك قلة الأنصار) قلت: يضاف إلى هذه المنيرة الرائعة ان الحليم - بطبعه وبوجود تلك الصفة فيه - قلما يوجد له أعداء، وقلما يؤذيه أحد بكلمة، لأن الناس كالمرآة يعكسون ما يرون، ويعاملون الإنسان بما يعاملهم به، فالحليم واسع الصدر باسم الثغر فيجد الابتسامة على وجوه الناس، والتحية الصادقة لكل من يلقاه، وباعتبار انه حليم راجح العقل فهو لا يخطئ على أحد ابتداء ولا يعتدي، كيف وهو يعفو عمن أخطأ عليه، ويحلم على من جهل؟ والحلم المحمود هو الذي يأتي عن مقدرة لا عن ذل وضعف، وإنما يظهر جوهر خلق الإنسان في تعامله مع من هم دونه، من يقدر عليهم، كخدمه وأطفاله وزوجته ومرؤوسيه فإذا كان حبيباً معهم محبوباً منهم حليماً إزاء أخطائهم فجوهره كريم وحلمه أصيل. أما الذي يتظاهر بالحلم على من لا يقدر عليه كرئيسه في العمل، ومن هو أقوى منه عموماً، بينما هو غضوب قاسٍ على خدمه ومرؤوسيه وصغاره فإنه لئيم وليس بحليم، وما يتظاهر به من أنه حلم فهو ذل ونفاق.. طبعاً الحليم مع الجميع - مع منهم أضعف منه ومنهم أقوى - هو الراشد الحليم ذو المعدن الأصيل. والعرب - مع عشقهم للحلم واعتبارهم إياه فروسية من النوع الراقي - أكثرهم واقعيون يفضلون التمييز فيكون الإنسان حليماً مع من يستحق الحلم، قاسياً على اللؤماء والقساة والأعداء الذين لا ينفع الحلم معهم.. قال محمد بن وهيب: ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ولي فرس للجهل بالجهل مسرج وما كنت أرضى الجهل خدنا وصاحبا ولكنني أرضى به حين أحرج الا ربما ضاق الفضاء بأهله وأمكن من بين الأسنة مخرج وإن قال بعض الناس فيه سماجة فقد صدقوا، والذل بالحر أسمج فبالجهل لا أرضى ولا هو شيمتي ولكنني أرضى به حين أعوج» فهو هنا مضطر للجهل - بمعنى الرد بعنف - لأن خصمه لا يردعه إلاّ ذلك.. ويقول محمود سامي البارودي: ومن الحلم عند الخطب والمرء عاجز بمستحسن كالحلم والمرء قادر والحلم على الأقارب وذوي الأرحام أوجب.. قال حاتمي الطائي: تحلم عن الاذنين فاستبق ودهم ولن تستطيع الحلم حتى تحلما لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا وما يحلم الإنسان الا ليعلما فهو يدعو الإنسان لمجاهدة نفسه ورياضتها على الحلم حتى يعتاده.. ولابن الأعرابي: وذي رحم قلمت أظفار ضغنه بحلمي عنه وهو ليس له حلم صبرت على ما كان بيني وبينه وما تستوي حرب الأقارب والسلم إذا سمته وصل القرابة سامني قطيعتها تلك السفاهة والإثم فما زلت في ليني له وتعطفي عليه كما تحنو على الولد الأم وصبري على أشياء منه تريبني وكظمي علي غيظي وقد ينفع الكظم فداويته حتى ارفأن نفاره فعدنا كأنا لم يكن بيننا صرم واطفأ نار الحرب بيني وبينه فأصبح بعد الحرب وهو لنا يسلم والحكمة ان يصاحب الإنسان الحليم ويبعد عن الجاهل السفيه، قال الشيباني: أصب ذا الحلم بسجل ودٍ وصله ولا يكن منك الجفاء ولا تصل السفيه ولا تجبه فإن وصله داء عياء وإن فراقه في كل وقتٍ وقطع حبال خلته شفاء ويروي الشيخ عبدالله بن خميس في كتابه (رموز من الشعر الشعبي تنبع من أصلها الفصيح ص 63) هذا البيت في الحلم: ومن لا يرد الغيظ بالحلم زينت له النفس حالاتٍ خبيثٍ ورودها وينسبه (لراعي السر) ولا أدري ما اسمه، وبعض شعرائها الشعبيين ينسبون لبلدانهم كالشيخ محمد بن منيع (راعي البير) لأنه كان أميراً للبير حتى توفي عام 1117ه . ولراشد الخلاوي يوصي ابنه: تأدب وكن حراً فطينا مهذباً وكن زاهداً في الناس تأتيك خاطبه فلا الورد من شوك توقاه يا فتى ولا النرجس الغالي خشاشٍ صلايبه واخفض جناحاً لا ترى فيه عزة واسمع وطع ما دامت النفس راغبه ومن لا يسايس لناقة غار درها ولا الدر مهما غار يحتال حالبه ومن لا يكن غناه في داخل الحشا فلا الطرف ما يملاه إلاّ ترايبه