[b] قبيلة الحلم بين حب الرسول وأقوال الشعراء ذات يوم صائف كنت في طابور أشد صيفاً في أحد بنوك العاصمة الرياض وكان الطابور يسير ببطء كسلحفاة الجو رتيب وممل وخانق كل ما حولنا يدعو للضجر الزحام والحر والانتظار (خلفية قاتمة لمشاهد من مسرحية قذرة) وصل شخص يفصل بيني وبينه اثنان إلى موظف خدمة العملاء الذي يبدو مثل موظفي كل المصارف و الشركات الخاصة أنيقاً ودوداً ابتسامته تكفى لإطفاء نار الانتظار الطويل لعشرة عملاء وليس فقط للعميل الماثل أمامه طلب الموظف هويته بحث في أوراق ملأت جيبه الأعلى لم يجدها أعتذر له الموظف بلباقة مفرطة وبخلق رفيع. (المشهد الأول ) دقيقة صمت فصلت بين نظرتين متعاكستين من العميل الأولى بدأت من أعلى نقطة في رأس الموظف حتى قدميه والأخرى أخذت الاتجاه المعاكس من أخمص قدميه إلى رأسه وبين ثورة الرجل البركان كان الشيطان يغنى ويرقص هناك في أوردته بينما دمه يفور في شرايينه تمكن الغضب من كل أجزاءه أحمر وجهه وانتفخت أوداجه( المشهد الثاني) أدبر ثم أقبل كثور هائج استحضر في إقباله وإدباره كل ما في قاموس اللغة الساقطة من كلام الفحش والخناء لم تبق جملة ولا مفردة إلا وصم بها الرجل وذاك لم يحر جواباً الجميع واجمون بما فيهم زملاء الموظف ورؤساؤه بينما تسونامى الغضب الفاحش مازال هادراَ مع ارتفاع في وتيرة السب والقذف حتى وصل الأمر إلى وصمهِ لأمه بأوصاف يستحى قلمي احتراما لقرائه من ذكرها. عاد الموظف إلى كرسيه ووجهه يبدو أكثر صفاءً ونقاءً من ذي قبل و أُجلِس الرجل بعد شقاء في مؤخرة المكان ساد صمت مطبق أشبه بالفراغ بين مشهدي المسرحية أعلاه وهنا فتح الموظف الذرب فمه العذب وقال أمي :رحمها الله: ذهبت لخالقها منذ خمس سنين وأنت من ينؤ بحمل ما تقول ومن يذهب بذنبه وذنبها التفت الشاب موجها ً خطابه للجميع عدا ذلك الرجل وقال ما سمعت وما سمعتم لا يظيرنى شيئاً ولن ينقصني شيئاً بل سيزيدني وقاراً ورفعة و حشيمة كيف لا و إنا الصفح وأبى يدعى الحِلم و أمي الفضيلة وخالي يلقب بالمسامح و جدي يكنُا بأبي الصبر أما جدتي لأبى أعادها الله فيقال لها الأناة ويعود نسبنا إلى بطن من بطون قبيلة الأخلاق يقال لها الحلم والأناة وهذا النسب الرفيع الذي يحبه الله ورسوله هو ما منعني من الرد على أخي الهائج سامحه الله وأستدل بقول الرسول الصادق الأمين : لأشج عبد القيس إن فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة انتهى خطابه وأسدل الستار . وتحضرني قصة حول الموضوع الآنف تبين علو كعب قبيلة الحلم والأناة وسمو قامتها قال عبد الله بن طاهر: كنت عن المأمون يوماً، فنادي بالخادم: يا غلام فلم يجبه أحد؛ ثم نادى ثانياً وصاح: يا غلام! فدخل غلام تركي وهو يقول: أما ينبغي للغلام أن يأكل ويشرب؟ كلما خرجنا من عندك تصيح يا غلام يا غلام! إلى كم يا غلام؟ فنكس المأمون رأسه طويلاً، فما شككت في أن يأمرني بضرب عنقه؛ ثم نظر إلي فقال: يا عبد الله! إن الرجل إذا حسَّن أخلاقه ساءت أخلاق خدمة؛ وأنا لا نستطيع أن نسئ أخلاقنا، لنحسَّن أخلاق خدمنا. وقال بعض الحكماء الحلم غطاء ساتر والعقل حسام باتر فاستر خلقك بحلمك وقاتل هواك بعقلك ويقال في المثل من غرس شجرة الحلم أجتنى ثمرة السلم وفد أبدع الشعراء في وصف فضائل الحلم وذكر محاسنه وطيب عواقبه قال أبو العتاهية : فَيَارَبِّ هَبْ لِي مِنْكَ حِلْمًا فَإِنَّنِي أَرَى الْحِلْمَ لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهِ حَلِيمُ وَيَارَبِّ هَبْ لِي مِنْكَ عَزْمًا عَلَى التُّقَى أُقِيمُ بِهِ مَا عِشْتُ حَيْثُ أُقِيمُ أَلاَ إِنَّ تَقْوَى اللهِ أَكْرَمُ نِسْبَةٍ تَسَامَى بِهَا عِنْدَ الْفِخَارِ كَرِيمُ وقال الخريمي : أَرَى الْحِلْمَ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ ذِلَّةً وَفِي بَعْضِهَا عِزًّا يُسَوَّدُ فَاعِلُهْ وقال صالح بن جناح: إِذَا كُنْتَ بَيْنَ الْجَهْلِ وَالْحِلْمِ قَاعِدًا وَخُيِّرْتَ أَنَّى شِئْتَ فَالْحِلْمُ أَفْضَلُ وَلَكِنْ إِذَا أَنْصَفْتَ مَنْ لَيْسَ مُنْصِفًا وَلَمْ يَرْضَ مِنْكَ الْحِلْمَ فَالْجَهْلُ أَمْثَلُ وقال آخر:- أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْحِلْمَ زَيْنٌ مُسَوِّدٌ لِصَاحِبِهِ وَالْجَهْلَ لِلْمَرْءِ شَائِنُ فَكُنْ دَافِنًا لِلْجَهْلِ بِالْحِلْمِ تَسْتَرِحْ مِنَ الْجَهْلِ إِنَّ الْحِلْمَ لِلْجَهْلِ دَافِنُ وقال محمود الوراق: سَأُلْزِمُ نَفْسِي الصَّفْحَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ وَإِنْ عَظُمَتْ مِنْهُ عَلَيَّ الْجَرَائِمُ فَمَا النَّاسُ إِلاَّ وَاحِدٌ مِنْ ثَلاَثَةٍ شَرِيفٌ وَمَشْرُوفٌ وَمِثْلٌ مُقَاوِمُ فَأَمَّا الَّذِي فَوْقِي فَأَعْرِفُ قَدْرَهُ وَأَتْبَعُ فِيهِ الْحَقَّ وَالْحَقُّ لاَزِمُ وَأَمَّا الَّذِي دُونِي فَإِنْ قَالَ صُنْتُ عَنْ إِجَابَتِهِ نَفْسِي وَإِنْ لاَمَ لاَئِمُ وَأَمَّا الَّذِي مِثْلِي فَإِنْ زَلَّ أَوْ هَفَا تَفَضَّلْتُ إِنَّ الْحُرَّ بِالْفَضْلِ حَاكِمُ وقال آخر:- التِّيهُ مَفْسَدَةٌ لِلدِّينِ مَنْقَصَةٌ لِلْعَقْلِ مَهْتَكَةٌ لِلْعِرْضِ فَانْتَبِهِ لاَ تَشْرَهَنَّ فَإِنَّ الذُّلَّ فِي الشَّرَهِ وَالْعِزَّ فِي الْحِلْمِ لا فِي الْبَطْشِ وَالسَّفَهِ وقال الشافعي - رحمه الله -: يُخَاطِبُنِي السَّفِيهُ بِكُلِّ قُبْحٍ فَأَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ لَهُ مُجِيبَا يَزِيدُ سَفَاهَةً فأَزِيدُ حِلْمًا كَعُودٍ زَادَهُ الإِحْرَاقُ طِيبَا وقال آخر: وَجَهْلٍ رَدَدْنَاهُ بِفَضْلِ حُلُومِنَا وَلَوْ أَنَّنَا شِئْنَا رَدَدْنَاهُ بِالْجَهْلِ وقال آخر: إِذَا سَبَّنِي نَذْلٌ تَزَايَدْتُ رِفْعَةً وَمَا الْعَيْبُ إِلاَّ أَنْ أَكُونَ مُسَابِبهْ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَفْسِي عَلَيَّ عَزِيزَةً لَمَكَّنْتُهَا مِنْ كُلِّ نَذْلٍ تُحَارِبُهْ وقال آخر: قُلْ مَا بَدَا لَكَ مِنْ صِدْقٍ وَمِنْ كَذِبٍ حِلْمِي أَصَمُّ وَأُذْنِي غَيْرُ صَمَّاءِ قال آخر: إِذَا نَطَقَ السَّفِيهُ فَلاَ تُجِبْهُ فَخَيْرٌ مِنْ إِجَابَتِهِ السُّكُوتُ فَإِنْ كَلَّمْتَهُ فَرَّجْتَ عَنْهُ وَإِنْ خَلَّيْتَهُ كَمَدًا يَمُوتُ وقال آخر: وَإِذَا بَغَى بَاغٍ عَلَيْكَ بِجَهْلِهِ فَاقْتُلْهُ بِالْمَعْرُوفِ لاَ بِالْمُنْكَرِ قال آخر: وَأَصْفَحُ عَنْ سِبَابِ النَّاسِ حِلْمًا وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ يَهْوَى السِّبَابَا وَمَنْ هَابَ الرِّجَالَ تَهَيَّبُوهُ وَمَنْ حَقَرَ الرِّجَالَ فَلَنْ يُهَابَا وقال الشافعي: لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ أَرَحْتُ نَفْسِيَ مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ إِنِّي أُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ لأَدْفَعَ الشَّرَ عَنِّي بِالتَّحِيَّاتِ وَأُظْهِرُ الْبِشْرَ لِلإِنْسَانِ أُبْغِضُهُ كَأَنَّمَا قَدْ حَشَا قَلْبِي مَحَبَّاتِ النَّاسُ دَاءٌ، وَدَاءُ النَّاس ِقُرْبُهُمُ وَفِي اعْتِزَالِهِمُ قَطْعُ الْمَوَدَّاتِ وقال آخر:- احْفَظْ لِسَانَكَ إِنْ لَقِيتَ مُشَاتِمًا لاَ تَجْرِيَنَّ مَعَ اللَّئِيمِ إِذَا جَرَى مَنْ يَشْتَرِي عِرْضَ اللَّئِيمِ بِعِرْضِهِ يَحْوِي النَّدَامَةَ حِينَ يَقْبِضُ مَا اشْتَرَى وقال آخر:- أَلا إِنَّ حِلْمَ الْمَرْءِ أَكْبَرُ نِسْبَةٍ يُسَامِي بِهَا عِنْدَ الْفِخَارِ كَرِيمُ فَيَارَبِّ هَبْ لِي مِنْكَ حِلْمًا فَإِنَّنِي أَرَى الحِلْمَ لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهِ حَلِيمُ قال الحكيم العربي: وَالْحِلْمُ أَعْظَمُ نَاصِرٍ تَدْعُونَهُ فَالْزَمْهُ يَكْفِكَ قِلَّةَ الأَنْصَارِ وتذاكر جماعة فيما بينهم أخبار معن بن زائدة وما هو علية من وفرة الحلم ولين الجانب وأطالوا في ذلك فقام أعرابي وآلي على نفسة أن يغضبه فقالوا : إن قدرت على إغضابه فلك مائة بعير فانطلق الأعرابي إلى بيته وعمد إلى شاة له فسلخها ثم ارتدى بإهابها جاعلا باطنة ظاهرها ثم دخل على معن بصورته تلك ووقف أمامه طافح العين كالخليع تارة ينظر إلى الأرض وتارة ينظر إلى السماء ثم قال : أتذكرُ إذ لحِافك جلدُ شاةٍ - - - وإذ نعلاك من جلدِ البعير قال معن : أذكر ذلك ولا أنساه يا أخا العرب فقال الأعرابي : فسبحان الذي أعطاك مُلكاً وعلمك الجلوس على السرير فقال معن : سبحانه وتعالى : فقال الأعرابي : فلستُ مُسلماً ما عشتُ حيا على معن بتسليمِ الأمير قال معن : إن سلمت رددنا عليك السلام وإن تركت فلا ضير عليك فقال الأعرابي : سأرحل عن بلادٍ أنت فيها ولو جار الزمانُ على الفقير فقال معن : إن أقمت بنا فعلى الرحب والسعة وإن رحلت عنا فمصحوباً بالسلامة فقال الأعرابي وقد أعياه حلم معن: فجُد لي يابن ناقصة بمالٍ فإني قد عزمت على المسير فقال معن : أعطوه ألف دينار فأخذها وقال : قليل ما أتيت به وإني لأطمعُ منك بالمال الكثير فثن فقد أتاك الملك عفواً بلا عقلٍ ولا رأيٍ منير فقال معن : أعطوه ألفاً ثانياً فتقدم الأعرابي إلية وقبل يديه ورجليه وقال : سألتُ الجود أن يُبقيك ذخراً فما لك في البرية من نظير فمنك الجود والإفضال حقاً وفيض يديك كالبحر الغزير فقال معن : أعطيناه على هجونا ألفين فأعطوه على مدحنا أربعة آلف فقال الأعرابي جعلت فداك ما فعلت ذلك إلا لمائة بعير جعلت على إغضابك فقال معن : لا خوف عليك ثم أمر له بمائتي بعير نصفها للرهان والنصف الآخر له فانصرف الأعرابي داعياً شاكرا خاتمه : قال أشج عبد القبس عندما قال له الرسول الأعظم عن خصلتى الحلم والأناة أخلق تخلقته أم جبلت عليه فقال له الرسول الكريم بل جبلت عليه فقال الحمد لله الذى جبلنى على ما يحبه الله ورسوله مع الدعاء لصفح بن حلم بالبقاء ولجدته الأناة بالعودة . محمد على المساعد [email protected]