لو عدنا بالذاكرة ووقائع التاريخ لما يقرب من أربعة عقود فقط عندما كانت حياتنا أقرب للركود من حالة الحركة الدائبة اليوم، لتغيّرت نظرتنا وأفكارنا، ولعرف الجيل الراهن كيف تغيرت الأبعاد والناس، وانقلبت جغرافيتنا المحلية لحالة غير مسبوقة في كل التاريخ.. فلو جمعنا سكان المنطقة الوسطى فقط لتضاعف عن المرحلة السابقة ربما أكثر من مرتين، ولو جمعنا تجار المنطقة الغربية، وحركتها التجارية والاقتصادية، لفاقا ميزانية الدولة عشرات المرات عن ذلك الماضي، ثم لو حصرنا مجموع منازل وسيارات ومباني المنطقة الشرقية وحدها، لفاق كل ما شيدناه أو تحرّك على أرضنا في عموم جغرافيتنا كلها في ذلك الوقت، والإحصاء المقارن ، والتشبيهات بين الماضي والحاضر غيّرا الكثير من الوقائع والسلوكيات، ومعها معارف خرجت من المحلية إلى محاكاة الإنسانية. جيل اليوم، وبصرف النظر عن المظاهر السلبية في تفسير المسنين منا حولهم فهم الأكثر وعياً واستقلالاً بالقرارات ونظرة الحياة، فلم تعد الأسرة مركبة، وليست الأبوة معزولة عن الحوار، وينطبق هذا على مساءلة المدرس، وأستاذ الجامعة ورئيس الإدارة بمنطق عصر اليوم لا نفوذ الماضي، وأبوته المقدسة.. ولو عدنا للجانب المركب في حياة إنسان معاصرٍ، خرج من سكون القرية أو فضاء الرعاة في الصحراء، والمدى البعيد لصيادي الأسماك، ونظرنا كيف يفكر شاب لم يتجاوز عقده الثاني، أو شابة بنفس العمر، فإن سجلات يومياتهما تقتضي قراءة أو سماع الأخبار بكل تشعباتها، ومعها النشرة الجوية والدوائية، وتاريخ أي منتج طبي أو غذائي، والنسب القليلة أو المتصاعدة للملح والسكّريات، والأغذية المشبعة بالدهون التي ترفع الكولسترول، أو ضغط الدم، وتلوث الجو والمياه وغيرها.. اتساع المعرفة أزاح العديد من الممارسات والتقاليد والعادات، فقد تبدلت القوة العضلية بالمعرفة، وحل العقل في تفسير الأشياء مكان الأخذ بالقواعد الحتمية التي لا تتبدل، وطالما كل تغيير يولّد المتضادات والنزاعات الطويلة كأي شأن في التحولات العظمى سواء بالانتقال من النظام الزراعي للصناعي، ومن تلك الموجات إلى اقتصاد المعرفة، فإنّ من الأمور الطبيعية أن تحدث هذه الانقلابات، لأنه نزاع المستقبل الذي لا تحدده حالات الثبات الدائم.. نحن نعيش رحلة التطور، وسواء جاءت الأمور متلازمة مع العصر أو خارجة، فالحكم يبقى للأصلح ، وهي معركة تخترع طرائقها وتحالفاتها الفكرية، وبالتالي فما يحدث الآن ليس فقط نزاعاً بين خير وشر، وإنما بمتغير كوني حُسمت المعركة فيه لصالح التقنية والمعرفة، وعولمة الموارد الاقتصادية والإنتاج، وتداخل البشر وضيق الاتساع الجغرافي، وفي هذه الطفرة الهائلة التي تهضم كل شيء، حدث الانتقال بسرعة، لكن هل نتجاوز زمننا لنرسم معالم الغد، أم نقف على تقاطع الطرق بضياع الهوية وتنامي الاختراقات السلبية بنوازعها المتطرفة بالاتجاه التكفيري، أو الآخر التغريبي والعدمي؟ وقود الحياة هو المعرفة وبدونها تتساوى الأمية مع دكتاتورية التعليم الموجّه، وبدون طاقات بشرية منظمة تعمل على الإنتاج ستقف عجلة الاقتصاد وتحل بديلاً عنها الفوضى المدمرة..