ما حدث ويحدث نستطيع تذكره لكوننا من ضمن معاصريه، ولكن ماذا عن أجيال فتية ستكبر وتقرأ عن مجريات عالمها العربي، خصوصاً منذ اندلاع أحداث تونس؟ فللمرء ولع منذ الأزل بمعرفة ما جرى في الماضي، ولماذا جرى بالشكل والكيفية اللذين وقع بهما، ولو أردنا الدقة أكثر فسنرجع هذا الشغف منذ ظهور تدوين التاريخ لدى اليونانيين، والذي يمثل بداية الوعي التاريخي الجاد. ولكن، أليس غريباً أمر هؤلاء اليونانيين؟ فكم من أمور جسام كانوا هم روادها قديماً حتى وصلوا إلى حالهم المتأزم اليوم في كل شيء، وكأنهم كما قول الفيلسوف سيوران: «تبدأ كل حضارة بأسطورة وتنتهي بشك». وبالعودة إلى التطور التاريخي نقول إنه مع مضي الأيام وتراكم الفعل الزمني والمكاني واتساع مجاله من حرب وسلم، إلى تطور تقنية جمع معلوماته وتنوع مصادرها، للتفسير والفهم الأصح، هذا كله كان موضع اهتمام مؤرخي الإغريق، حتى إنهم جعلوا التاريخ علماً مستقلاً عن الفلسفة، فكان هوميروس أول من وعى أهمية التاريخ في الفكر اليوناني باتفاق المؤرخين، من خلال رصده في ملحمة الإلياذة للأحداث الأخيرة لحرب طروادة، والتي نشبت حول مدينة أليون ل20 عاماً قبل الميلاد بحوالى 1100 سنة، وإن كان النقاد يميلون أحياناً إلى وصف هوميروس بالشاعر أكثر منه بالمؤرخ أو بفيلسوف التاريخ. فإذا انتقلنا من هوميروس إلى هيرودوت، فيكون هذا الأخير هو أول من حقق الشروط العلمية في التأريخ، فماذا يعني هذا؟ يعني أن هيرودوت أول من عني بالبحث والاستقصاء في مادته، فهو أول من استخدم لفظة «هيستوريا»، ومنها انشقت مفردة «هيستوري»، وتعني التاريخ بالانكليزية. بأية حال، إذا كان هوميروس أول من وعى أهمية التاريخ، فهيرودوت هو الملقب بأبي التاريخ بإجماع العلماء والمؤرخين، محدداً هدفه من التاريخ بحفظ ذاكرة الماضي بتسجيل الإنجازات التي قام بها اليونانيون ومعهم أصحاب الأمم الآسيوية الشرقية، أي أنه قد أرّخ للحروب اليونانية - الفارسية لمعرفة أسبابها، وهو ما قاده إلى التأريخ لنشأة الإمبراطورية الفارسية وغزو الفرس لمصر، بل إنه ومن حرصه على عمله كان أن سافر إلى مصر ليصف عادات أهلها، فالتاريخ في نظره دراسة اجتماعية لوصف أعمال الإنسان، ولإبراز الجانب العقلي للنشاط الإنساني، فهيرودوت لم يقف عند مجرد التفكير في الأحداث، وإنما أخضع الأحداث للبحث فيها بوصفها تصرفات بشرية لها ما يبررها بتفكير الإنسان ومنطقه، وهو ما عنيته في مقدمة المقالة! فمن يكتب التاريخ اليوم هل يفعل بالسرد ورص المجريات؟ أم أنه سينتقل من الوصف إلى التعليل والبحث عن سبب الحدث التاريخي، وهنا أيضاً هل سيكون موضوعياً أميناً للقيمة المعرفية، أم أنه سيطوع المنجز لوجهته ومنظوره المنفعي، بالفعل هي مهمة الأمناء والواعين فقط. فالوعي التاريخي عند هيرودوت قد بلغ حداً ارتبط فيه التاريخ بالجغرافيا ودراسة الأجناس البشرية، غير تنسيقه مع الفلسفة الإنسانية من ناحية أخرى، فالتاريخ لدى الرجل لم يكن أحداثاً تُروى ثم يتحرى المؤرخ عن مدى صحتها بالبحث عن مصادرها ووثائقها، لم يكن كذلك فحسب وإلاّ لما كنا نكتب عنه في عام 2012، فهيرودوت كان يدعم روايته للحدث التاريخي بالوصف الجغرافي، سواء أكان للأرض التي وقع عليها الحدث، أو للبشر الذين صنعوا الحدث، وهي موضوعية تاريخية تكاملت عند هيرودوت مع فلسفته التاريخية، فلم يجعل التاريخ مقصوراً على رواية الأحداث السياسية الكبرى التي يقودها الحكّام، لأن التاريخ ببساطة هو تاريخ الشعوب وإنجازاتها في مجالات متشعبة. التاريخ ليس في إنجازات الزعماء السياسيين فقط، ولاستيعاب هذا كله إنما نحتاج إلى الوعي المسبق الذي يكشف عن الحس الحضاري للمؤرخ. التاريخ لا يكتب للتسلية، أو للعنة الفضول، وإنما يوثّق لتنتفع به الأجيال الحاضرة والآتية، فيكفي ما تشوّه من تاريخنا بمراحله بمحطاته برجاله بنسائه. لذلك نقول إن رصد تاريخنا اليوم هو من أمانات الرجال ومن حق من يأتي بعدنا علينا، فكما نحن نلوم من سبقونا في تحريف الحقائق، كذلك سنكون في نظر من يخلفونا لو تهنا في المتاهة الخادعة ذاتها. [email protected]