حين نسأل: ما هو هذا؟ ما هو ذاك؟ فنحن نسأل عن المعنى. والمعنى يختلف من مفردة لغوية إلى أخرى: فقد يكون ثابتاً مثل: أب/ أم/ ماء/ نار... وقد يكون متحولاً، منزاحاً عن معناه القاموسي إلى معان تتراكم شيئاً فشيئاً.. مثل: أمة/ وطن / ثقافة / حرية... فتمسى المفردة، في هذه الحالة (مفهوماً) فأين تقع كلمة التاريخ من هذين النوعين من المعنى؟ المعنى اللغوي الأول للتاريخ هو ( تثبيت الوقت ) أما معناه الاصطلاحي فهو ( سلسلة الوقائع الماضية وكيفية سردها ) وهذان معنيان واضحان.. ولكن هل التاريخ فعلاً مجرد تثبيت الوقائع الماضية؟ لا. أبداً.. فالوقائع الماضية لا تدخل بنفسها في الذاكرة حتى يتشكل منها التاريخ.. إن هناك آلاف الوقائع لم نعِ بها فلم تدخل فيه. إنها تدخل حين نعي بها.. فالوعي إذن جزء من التاريخ.. ولذا لابد من إضافة شيء إلى التعريف الاصطلاحي، ليكون هكذا: التاريخ هو الوعي بالوقائع الماضية وكيفية سردها. وهناك تتضح أمامنا ثلاثة أبعاد للتاريخ هي: الحادثة والمؤرخ والزمن.. وكل واحد من هذه الأبعاد يثير أسئلة عدة: فالبعد الأول وهو ( الحادثة ) يطرح أمامنا أسئلة منها: هل وقعت هذه الحادثة فعلاً؟ وعلى فرض وقوعها، فهل هناك سبب لها؟ وإذا كان هناك سبب، فما هي الغاية من وقوعها؟ وقبل ذلك وبعده ينطرح السؤال: هل يمكن لهذه الحادثة ألا تحدث؟ أما البعد الثاني وهو ( المؤرخ) فيطرح كذلك أسئلة عدة.. فالمؤرخ هو الجسر الذي يوصلنا إلى معرفة الحادثة، فمن هو هذا المؤرخ؟ وكيف وصل إلى المعرفة بالحادثة؟ وهل كان متيقناً من وقوعها أولا؟ وما هو تفسيره لها؟ أما البعد الثالث وهو ( الزمن ) فهو أخطر الأبعاد الثلاثة، لأنه غير ثابت وتتغير خلاله اللغة وسلم القيم والمعايير الاجتماعية.. ونحن حين ننظر في الحادثة ننظر فيها برؤية مختلفة عن زمن وقوعها.. وإذن يأتي السؤال: على أي أساس نقيم هذه الحادثة، مع العلم أن بعض المقاييس، على الأقل، قد تغيرت؟ كيف كتب التاريخ؟ هناك اختلاف واسع بين المؤرخين في تحديد الأمة التي بدأت كتابة التاريخ المتسلسل.. والأرجح أنها الصين التي بدأت التأريخ في (3000 سنة ق.م) وقيل: إنهم السومريون.. أما اليونان الذي منهم «هيرودوس» وعرف بأنه «أبو التاريخ» فكان في ( 484 – 425 ق.م) وهو زمن متأخر. وكان التاريخ يدور حول حياة الأباطرة وأفعالهم. وقد أدى هذا النهج إلى طمس فترات طويلة من التاريخ لأن بعض الأباطرة يمحو آثار من سبقه ويعتبر نفسه بداية التاريخ. وقد بدأ التاريخ متقطعاً، فكل حادثة كبيرة يبدأ التاريخ بها من الصفر.. وكل أمة تؤرخ بأحداثها هي.. وحتى بين القبائل نشاهد عشرات البدايات والنهايات في تاريخها.. ولم يتحدد التاريخ القمري إلا في عهد الخليفة عمر ببداية الهجرة.. أما التاريخ الشمسي الميلادي فلم يتحدد إلا بعد ذلك بزمن طويل وهو - حسب العروي - القرن الثامن عشر. أما بالنسبة للجزيرة فقد أثبتت الوثائق أن الجنوبيين هم الذين استخدموا كلا من التاريخ القمري في العقود والديون.. والتاريخ الشمسي في الزراعة لوضوح الفصول وثباتها. هل التاريخ صدفة أم ضرورة؟ هذه العشوائية في كتابة التاريخ الماضي تركت أمام المؤرخين ركاماً من الحوادث المتناقضة دفعتهم إلى التساؤل: هل تقع ظواهر التاريخ صدفة.. أم أن هناك ضرورة وراء وقوعها ؟ إن أحد التعريفات يقول: ( التاريخ هو حاصل الإمكانات التي تحققت ) أي أن هذه الإمكانات يمكن ألا تتحقق، ويتحقق غيرها.. وإذن فالتاريخ ما هو إلا محض وقائع تتحكم فيها الصدفة. وقد أيد كثير من المؤرخين هذا الرأي. منهم المؤرخ الشهير شبنجلر الذي يقول: ( التاريخ مثقل بالقدر خال من القوانين ) كما أيده الفيلسوف ميشيل فوكو ( 1926 – 1984م ) الذي يقول – حسب محمد المزوغي – ( التاريخ فقل ذاتي تماماً مثل الأدب يعمل فيه الخيال ما يريد، وأن كل وثيقة فيه لا تدل إلا على نفسها، ولا علاقة لها بأي وثيقة أخرى. في الطرف الآخر، هناك مؤرخون وفلاسفة أعادوا ظواهر التاريخ إلى قوانين تتحكم في مسيرته. وأول هؤلاء هو ابن خلدون (1332- 1406). ابن خلدون أول مفكر أحدث منهجه انقلاباً في النظر إلى التاريخ، فهو لاحظ بعمق الأبعاد الثلاثة (الحادثة والمؤرخ والزمن)، موضحاً أثر كل بعد منها، وما يمليه من شروط. فبالنسبة للحادثة قسم التاريخ إلى ظاهر أي إلى شتات من الحوادث المتناثرة، وإلى باطن يكمن وراءه قانون يسمى «السببية»، فقال: «التاريخ في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول من القرون الأول، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليقة». وقد وضع للحادثة قانوناً يعرف به الصدق من الكذب فيها حين قال: «القانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان أو الاستحالة النظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران [1] ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه. وما يكون عارضاً لا يعتد به ولا يمكن أن يعرض له. وإذا فعلنا ذلك كان قانوناً لنا في تمييز الحق من الباطل في الاخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه». وأهم نقطة في تحليله للحادثة ربطه لقانونها بطبيعة الأشياء، أي لا علاقة له بالدين. فهو يقول: «الواقع له قوانينه الذاتية التي تحركه، ويدركها الإنسان بعقله وينفذها بجهده، وهي قوانين العمران الاجتماعي، ولا علاقة لها بأحكام الشريعة». أما بالنسبة للبعد الثاني وهو (المؤرخ)، فلاحظ ابن خلدون طريقة المؤرخين من قبله، فخطأهم في خمسة أمور - بحسب علي أوماميل – اعتبرها منزلقات لم يستطيعوا تجاوزها وهي: 1- التشيع للآراء والمذاهب «فإن النفس إذا خاسرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقه من الأخبار». 2- الثقة بالناقلين. 3- الذهول عن المقاصد. 4- الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع. 5- تقرب الناس لأهل المناصب. كان المؤرخ قبل ابن خلدون ينظر الحادثة منفصلة عن زمن وقوعها، وعن غيرها من الحوادث. أي أن الحادثة «لا علاقة لها بالمتناقضات التي تزامنت معها وجعلتها على هذه الشاكلة من دون تلك»، كما كان المؤرخ يعتمد على طريقة الإسناد. وقد أوضح ابن خلدون عقم هذا النهج، معتمداً على قانون السببية. أما البعد الثالث وهو «الزمن»، فكان أهم ما دارت حوله ملاحظات ابن خلدون الرائدة. فهو يعلل أخطاء المؤرخين بسبب مهم هو أنهم لم يلاحظوا التغيّر في الزمن ويقول: «الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل العصور ومرور الأيام. وهو داء دوي شديد الخفاء، إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة. وذلك أن أحوال الأمم والعالم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر. إنما واختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال». وفي نص آخر يقول: «اعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجددة ويكتسب القائمون عليها في كل طور (خلقاً) من أحوال ذلك الطور، لا يكون مثله في الطور الآخر، لأن (الخلق) تابع لمزاج الحال الذي هو فيه». النقلة الفاصلة الثانية بعد نقلة ابن خلدون حدثت في القرن 18، فأطلق فولتير (1694- 1778) مصطلح (فلسفة التاريخ)، وأدان كون التاريخ سجلاً للأباطرة وأفعالهم وقال: «التاريخ هو سجل النشاط البشري من علوم وفنون وآداب. أي كل ما يعنيه (مفهوم) الحضارة من الثقافة الشاملة». وفلسفة التاريخ تعني «البحث في المبادئ العامة التي يخضع لها تطور المجتمعات، وتعنى بتفسير التاريخ على ضوء نظرية عامة. على أنه كل غير منقسم إلى أحداث جزئية، وأنه يسير إلى غاية». ذلك لأن الفكر الفلسفي يرفض النظر إلى الظواهر الاجتماعية، وكأنها فوضى تولدها الصدفة «فالبديهية القائلة إن لكل شيء سبباً هي احد شروط قدرتنا على فهم ما يجري حولنا». وقد اختلف المؤرخون والفلاسفة اختلافاً واسعاً في تحديد السبب الفاصل وراء سير التاريخ، وهناك نظريات تمتد من الميتافيزيقا حتى الواقع، من أهمها النظرية الاقتصادية والثقافية والجنسية ونظرية البطولة وغيرها. ويؤخذ على جميع هذه النظريات أنها ( افتراضية) تجعل لجميع ظواهر النشاط البشري الذي تتداخل فيه الإدارة والضرورة سبباً واحداً ... (قبلياً) وهذا غير ممكن. في البحث عن السبب لمسيرة التاريخ بقي أن ننظر في الإجابة لأهم الأسئلة وهو (ما هو مجال القوانين التاريخية؟) هل كل حادثة من الحوادث داخلة في مجال هذه القوانين؟ أم أن تلك القوانين مختصة بحوادث تتوافر فيها شروط محددة؟ الواقع أن القوانين المفترضة للتاريخ تختص بحقل معين من الوقائع، وهو الذي تتحقق فيه ثلاثة شروط: 1- أنها مختصة بالفعل الإنساني، فاكتساء شجرة بالأوراق في فصل وعريها منها في فصل آخر ظاهرة ولكنها لا تدخل في مجال قوانين التاريخ. 2- لابد من أن يكون ذلك الفعل الإنساني مرتبطاً بهدف، أي بشيء غير موجود حين القيام بالفعل إنما يوجد نتيجة للفعل نفسه. فالسبب لجميع الظواهر شيء بديهي ولكنه مرتبط بالماضي. أما الهدف فهو مرتبط بالمستقبل. 3- أن يتجاوز الفرد إلى المجتمع.