أثار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز حفظه الله تعالى في خطابه السنوي في مجلس الشورى، العديد من القضايا والأمور الهامة، التي يستحق الوقوف معها كثيرا.. وأود في هذه العجالة أن أقف وقفة سريعة مع قضية هامة طرحها خادم الحرمين الشريفين في خطابه الأخير وأسماها (انتفاضة المصالحة ورأب الصدع والشقاق بين الدول العربية).. فكلنا يعلم أن وحدة العرب وتجاوز خلافاتهم وشقاقاتهم هي الشرط الشارط للوصول إلى التطلعات والطموحات العربية المشتركة.. وإن الخلافات العربية بكل مستوياتها وأشكالها، هي مضرة حاضر العرب ومستقبلهم، ولا يوجد على الصعيد العربي رابح من هذه الخلافات. فكلنا كعرب خاسرون من خلافاتنا، ولا خيار أمامنا إلا تجاوز الخلافات العربية ورأب الصدع الذي استفاد منه خصوم الأمة.. وإن قضايا العرب الاستراتيجية والملحة اليوم، تتطلب انتفاضة عربية تصالحية، ويتجاوز الجميع فيه خلافاتهم وأسباب تباعدهم.. وهذا كله حاجة إلى مبادرة عربية سريعة، تستهدف المصالحة العربية، وإنهاء كل أشكال الخصام والتباعد في الساحة العربية. ولا ريب أن خطاب خادم الحرمين الشريفين في قمة الكويت الاقتصادية هو المبادرة العربية النوعية، التي تحتاجها الساحة العربية، وتعيد الاعتبار إلى أولوية المصالحة العربية.. فالعرب بكل دولهم وشعوبهم، بحاجة إلى مصالحة سياسية، تتجاوز بعض التباينات، وتعيد الحيوية إلى المؤسسات والأطر العربية القومية، وتعيد تظهير القوة العربية بشكل متضامن وموحد.. ونحن كشعوب عربية، نتطلع إلى استمرار قطار المصالحة العربية، وتطوير العلاقات العربية - العربية بما يفيد حاضر العرب ومستقبلهم. ولا شك أن تأكيد خادم الحرمين الشريفين مجددا على أهمية وضرورة المصالحة العربية وتجاوز كل أشكال الخلاف والشقاق، يشكل دفعة كبرى لقطار المصالحة العربية.. فالتحديات الكبرى التي تواجد المنطقة العربية اليوم، لايمكن أن نواجهها ونحن متباعدون عن بعضنا البعض، بل هي بحاجة إلى مصالحة عربية عميقة، تصنع كل الظروف والمعطيات الضرورية لبلورة القدرة العربية المطلوبة لمواجهة هذه التحديات، وإنجاز كل التطلعات التي يتطلع إليها العرب بكل دولهم وشعوبهم. ولكي تتحقق المصالحة العربية، وتتجاوز الدول العربية كلها الآثار السياسية والاقتصادية لخلافاتها، نحن بحاجة إلى التأكيد على النقاط التالية: يبدو ومن خلال المعطيات السياسية القائمة، أن أحد الأسباب الأساسية للتباينات والاختلافات العربية، هو وجود رؤى أو قراءات سياسية مختلفة لبعض الأحداث والتطورات السياسية التي جرت في المنطقة خلال الفترة الماضية. ولا يمكن تحقيق المصالحة العربية، إلا بإعادة تشكيل الرؤية العربية على المستوى الاستراتيجي لمختلف التطورات والتحولات السياسية والاستراتيجية التي تجري في المنطقة.. فالمصالحة العربية لا تساوي أن تتطابق وجهات نظر كل الدول العربية حول مجمل الأحداث والتطورات. ولكن من المهم أن تكون هناك رؤية إستراتيجية عربية موحدة، مع احترام تام من قبل الجميع إلى خصوصيات كل دولة، والتكتيكات التي تستخدمها لتنفيذ تلك الرؤية الاستراتيجية المشتركة. فالمطلوب حتى لا تتكرر الخصومات العربية، هو بناء إستراتيجية عربية موحدة، تبلور الخيارات السياسية العربية، وتجيب على أهم الأسئلة التي تطرحها أحداث المنطقة وتطوراتها المتعددة. إن المصالحات العربية، بحاجة بشكل دائم إلى إرادة سياسية من مختلف الحكومات العربية، للحفاظ على أجواء ومناخات ومتطلبات المصالحة العربية.. فالمصالحة العربية ليست مشروعا عاطفيا، نطالب به، ونلح عليه، وإنما هي ضرورة من ضرورات الأمن القومي العربي. وحاجة ملحة لكل الدول العربية، للوقوف معا، تجاه مختلف التحديات والتحولات. ولكي يتمكن الجميع من تجاوز وإفشال كل المخططات والمؤامرات التي تستهدف المنطقة العربية بأسرها في وجودها السياسي وثرواتها الاقتصادية والطبيعية، وفي مواقعها الاستراتيجية المتعددة. ففي المصالحة السياسية لكل الدول العربية، تكمن مصلحة جميع الدول العربية. وأي طرف لا يساهم في تعزيز خيار المصالحة العربية، أو يعمل لاعتبارات عديدة لعرقلة هذا الخيار وهذه المسيرة، هو في حقيقة الأمر يضر بمصالحه الوطنية والذاتية، ويساهم بشكل أو بآخر في إضعاف الوضع العربي، وإدامة ثغراته البنيوية التي تهدد حاضره ومستقبله. فخيار المصالحة العربية، ليس خيارا أخلاقيا فحسب بالنسبة إلينا، وإنما هو وبالدرجة الأولى ضرورة أمنية، وحاجة سياسية واقتصادية وإستراتيجية. ولا خيار أمامنا جميعا كعرب إذا أردنا أن نمتلك القدرة لمواجهة كل المخاطر والتحديات، إلا الإسراع في بناء المصالحة العربية على أسس جديدة، حتى ننطلق معا، وبعيدا عن مختلف الهواجس، لبناء وقائع إستراتيجية عربية، تصون الأمن القومي العربي، وتطرد من الفضاء العربي كل الهواجس والالتباسات، وتؤسس لخيارات عربية مشتركة صلبة ومتماسكة.. وجاء مؤتمر القمة العربية في العاصمة العربية (الدوحة)، ليؤكد هذه الحقيقة.. فالإصرار على المصالحة العربية من كل الدول، هو الذي يساهم في تذليل كل الصعوبات التي تحول دون التقارب والتفاهم العربي المشترك. من المهم بالنسبة إلى جميع الدول العربية، التعامل مع مقولة المصالحات العربية، بوصفها مشروعا متكاملا، يحتاج إلى رؤية وإستراتيجية واضحة لتحقيقها وإزالة كل العقبات التي تحول دون تحقيقها.. فالمصالحة العربية ليست خطبة سياسية عصماء يلقيها هذا الزعيم العربي أو ذاك، وليست موعظة أخلاقية يتفوه بها هذا الداعية أو ذلك. إنها مشروع متكامل، يتطلب إرادة سياسية، وخطط مرحلية متكاملة، ومؤسسات وأجهزة عربية متكاملة، تنفذ كل المقولات الجميلة حول المصالحة، وتحولها إلى حقائق قائمة وشاخصة في المشهد العربي.. وحاجة الدول العربية إلى المصالحة، تقتضي من كل الزعامات العربية، الإعلان عن موقف صريح من خطوات المصالحة، وتوظيف موقعها السياسي والدبلوماسي والدولي لتعزيز هذا الخيار، وتوفير كل أسباب وعوامل النجاح له.. فالتحديات التي تواجه المجال العربي، عديدة، ومعقدة، ومتشعبة، ولا يمكن مواجهتها إلا بتعزيز التضامن والتفاهم العربي. وتبقى المصالحة العربية هي البوابة الكبرى، التي تمكننا من إنجاز تضامننا العربي. فلتتجه كل الجهود والمبادرات، لبناء المصالحات العربية على أسس سياسية وإستراتيجية، تمكن كل الدول العربية، من تخطي كل الصعوبات وتوفر المناخ السياسي لبناء مبادرات سياسية نوعية، تعزز الموقع العربي في الخريطة الدولية.