فوق الدكة كان يتكئ (طراوة) .. وكانت كراعينه الطويلة تتجاوز حافتها بحيث يمكن رؤيتها من أول الشارع.. كان يحركها يميناً وشمالاً من وقت لآخر لطرد الذباب.. ولا تزال رقبته تلوب بحثاً عن (السقا).. مضى وقت طويل دون أن يأتي برميل واحد من (البازان) .. البراميل الفارغة بحميرها الراكضة هي التي تأتي من الاتجاه الآخر.. الواقع أن السقائين القادمين من (البازان) ببراميلهم الملأى اتخذوا سبيلاً آخر.. فهم يمرون عبر الزقاق الخلفي الضيق تجنباً لطراوة الذي يمد كراعينه الطويلة على هذه (الدكة)، يمكن رؤيتها من بعد..! من وقت لآخر تمر بعض النسوة من الجانب الآخر للشارع.. (عيد) يلتصق بأمه ويتشبث ب(العباية).. كان قد قذف (طراوة) أمس بقشرة حبحب.. لا يزال يحتفظ بها بجانب قدميه.. لاحظ غريمه بنصف عين إلى أن ابتعد معها.. عندها صاح (عيد) وهو يركض - طراوة .. طراوة .. طراوة.. ولم يجن جنون (طراوة) فلم يكن ينقصه جنون! كان الهواء البحري يأتي بصوت (السمسمية) من شباك (عليثه).. وكانت أنغامها تختلط بسعاله المتواصل: "يم العباية.. حلوة عباتك.." وتشتبك ألحان (عبدالوهاب) بأغاني (سهام رفقي).. يلضم هذه بتلك! فجرت هذه (العقربة) المتسلطة مواهبه تفجيراً مدوياً .. ولو لم يكن سلبياً بطبعه، ولو لم تكن هذه (السمسمية) ملتصقة بضلوعه، لفقدت الحارة فناناً غير عادي.. ولأصبح لدينا أكثر من (طراوة). .. وتوقف السعال.. كان صوت السمسمية أكثر وضوحاً: "أوف أووف .. ياولفي.. ما تخاف الله" كان (طراوة) ممسكاً بأذني الحمار.. ثم عدل عن ذلك فطوّق رقبته بيده الطويلة يحثه على التقهقر ويصدر صوتاً من زاوية فمه يشبه (التعشيق).. وهي لغة تفهمها الحمير العربية والأفرنجية على السواء.. اندفعت العربة إلى الخلف.. وانحشر السقا بزقته في الزقاق الضيق الذي ينتهي بمدخل الباب بما يشبه الكمين.. وكان سبيله إلى الخلاص أن يُفرغ ماء البرميل في وقت قياسي.. حتى الحمار يعرف ذلك، فقد دفع الهواء عبر (براطمه) الغليظة، إذ لم يكن أقل من صاحبه تطلعاً لانتهاء هذه المحنة. وكان جمع لا بأس به من (النظارة) يرقب هذا المشهد عن بعد.. ربما ليس للمرة الأولى.. لكن عنصر التشويق و(الأكشن) كان دائماً موجوداً! كان ذلك هو (طراوة) أحد مجانين حارتنا القديمة. مجانين الأمس كانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة.. ولكي نحصي عدد المجانين في هذا الزمن الطازج نحتاج إلى عشرات الأصابع في اليد الواحدة!