رسم الكاتب القصصي والإذاعي يحيى باجنيد بألوان الشجن والحنين لوحات مشهدية ليوميات الناس في الحارة، قبل نصف قرن من الزمان، وأشعل قناديل ذاكرة جدة القديمة في حفلة توقيع مجموعته القصصية الجديدة «البازان وسيول البغدادية» الذي نظم في قاعة التجديد الثقافي أخيراً. اللقاء الذي حضره مجموعة من الصحافيين والكتاب تحول إلى مسامرة قصصية استمرت ثلاث ساعات، اكتشف فيها الحضور أن شخصيات عليتة عازف السمسمية، وطرواة المجنون، والأستاذ الغرياني، أبطال قصص باجنيد الذي سجل ملامحهم في الرسوم الداخلية بين صفحات كتابه، هم أشخاص حقيقيون عاش معهم مآثر ذلك الزمن الجميل، ولم تكن مروياته عنهم من وحي الخيال، وتحدث الكاتب الإذاعي المخضرم عن حارة البغدادية التي كان يعيش أهلها كأنهم عائلة واحدة، نسيج واحد من لحم ودم ومشاعر، واستعاد تلك اللحظات الجميلة التي لم يستطع نسيانها قائلاً: «في ذلك البيت غسلت وجهي من الغبار، وفي الآخر غمست شابورة في كوب الشاي، وفي البيت الكبير تحلقنا حول الراديو لسماع الأخبار». مارس باجنيد دور الحكواتي تلك الليلة، وأمتع الحاضرين بحكاية جيله الذي نحت في الصخر في الأزمنة القاسية، جيل كافح سعياً من أجل الرزق، وساهم في نهضة الوطن، لكنه لم ينسَ هويته، وحافظ على التراث الأصيل في ظل متغيرات العصر المتوالية. باجنيد قال عن نفسه: «إن قلبه أخضر والناس ما تعذر»، وما يزال يسكنه صوت سهام رفقي صداحاً وقت العصاري، وعبث الأطفال مع مجنون الحارة في الأزقة، وصورة جدة الحورية في عناقها الأبدي مع أمواج البحر الأحمر. وتحدث باجنيد خلال المسامرة عن مشواره في بلاط صاحبة الجلالة، عندما بدأ عمله سكرتيراً للتحرير في صحيفة «البلاد» براتب 400 ريال نهاية الستينات الميلادية، « كنا طوال النهار ننتقل من شارع إلى شارع ونقفز من باص إلى باص في البحث عن خبر جديد». وذكر أن المكافأة على الأخبار كانت في تلك الحقبة تتراوح بين 20 و 30 ريالاً، وفي حالة الخبر الطويل فإن المكافأة تقفز إلى 50 ريالاً مما يجعل صاحبها محط أنظار الزملاء وحسد أمين الصندوق. ثم تحدث عن مرحلة توليه رئاسة تحرير صحيفة «المدينة». واختتم الحديث عن مشواره بالإشارة إلى مقالته الأسبوعية في صحيفة «الرياض»، الذي يجد في بوح قرائه نبضاً يستشعر معه « قيمة وأهمية من نكتب عنهم، لقد مضى وانقضى ذلك الزمن الذي يمارس فيه الكاتب أستاذيته على الناس، فما أكثر ما يخيب ظننا نحن الكتّاب حينما يدرك الواحد منا أن في الناس من هو أفقه منه بفنه، فلم يعد الكاتب معلماً ولا صاحب معلومة، لأن العلم اليوم يملأ ما بين الأرض والسماء يحصل عليه من يشاء بضغطة زر».