ربما كانت بلدتنا الوحيدة في الناحية التي شيدت بها دار للسينما. وجاء الأمر صدفة. كان «المنسي» في زيارة لأقارب له في العاصمة. ورأوا احتفالاً به أن يدخلوه السينما. خرج منها مذهولاً يغمغم: آه. دنيا غير الدنيا. ويقول: معقول؟ فيه حاجة زي كده؟ عاد إلى البلدة وباله مشغول. اعتكف بالبيت يومين بليلة راقداً في الفراش محدقاً إلى زجاج الشباك. تكلمه امرأته وبناته، يرمقهم ساكتاً ثم يستدير إلى زجاج النافذة. وقالت امرأته: الراجل جرى له حاجة. طول عمره دماغه خفيفة. خرج من بيته بعد فطور تناوله صامتاً. وقصد قطعة أرض خرابة يملكها خارج البلدة تبلغ مساحتها نصف فدان. كانت مسورة، والسور تهدم هنا وهناك، ووجدت الكلاب الضالة فيها مأوى. وقف المنسي على بعد خطوتين يتأملها، ثم اقترب ونظر داخلها. أكوام من القمامة يرمي بها الأهالي، وقطط تطارد الفئران بين الحجارة. تلفت حوله: ليه لأ. والله فكرة. وأول واحد يعملها. مشى بامتداد الخرابة وعاد. ومشى وعاد. ثم رجع إلى بيته وأغلق على نفسه الحجرة. ظنوه نائماً. وحين نادوا عليه لتناول العشاء وجدوه صاحياً: افتكرناك نايم. أصحابك في القهوة سألوا عليك. طيب. وأغلق على نفسه الحجرة مرة أخرى وامرأته تقول في صوت مسموع: هو جرى له إيه؟ خرج في الصباح. ألقى نظرة أخرى على الخرابة. وبعد أيام بدأ العمل. جاء عمال ونظفوا المكان. وجاء آخرون وارتفعت الجدران. حين سألوا المنسي عما سيفعله؟ قال: أهي تنفع. مخزن حبوب. ندرس فيها القمح. أي حاجة. هو لا يعرف لمَ كان يخفي الأمر. ربما كثرة الكلام عنه لا تأتي بخير. وانتهى البناء. وظهرت الشاشة تتوسط الجدار، والأهالي تذهب وتأتي. تتأمل جدران المبنى البيضاء. أغلق المنسي على نفسه الحجرة منصتاً لصوت الميكروفون يتنقل في شوارع البلدة على عربة كارو، يعلن يوم الافتتاح وعرض فيلم «اسماعيل يس في الجيش» بسينما المنسي، وتدق امرأته باب الحجرة وتصيح: قوم يا منسي اسمع. نايم والبلد في زيطة عشان السينما بتاعتك. سامع الميكروفون؟ والمنسي لا يرد. كان يقف جانباً يرمق الزحام الشديد، وقد خطر له قبلها أن يجعل الدخول مجاناً في اليوم الأول، وتأمل الفكرة قليلاً ثم تخلى عنها. السينما من الداخل بها حجرة للحريم أسدلت ستارة أمامها كانت ترفع لدى بدء العرض. دكك خشبية من دون مساند مصفوفة بامتداد المكان. يستريح إليها الأهالي ويمددون أجسامهم ورؤوسهم فوق أذرعتهم المثنية، ولأنهم لم يتعودوا السينما بعد كانوا يستغرقون في النوم. امتلأت حجرة الحريم بنسوة تلتف في الملاءات، يختلسن النظر من فتحة صغيرة بالملاءة، وما إن يبدأ العرض حتى تسقط الملاءات على جوانب المقاعد. وتظهر فساتين زاهية الألوان بنصف كم تكشف عن أذرع بضة ممتلئة. وأمام الحجرة صف من الكراسي يزيد سعرها عن الدكك يجلس عليها بعض من شباب البلدة، تمتد أيديهم للخلف، في عتمة العرض الخفيفة وتلتقي بأيدي ممتدة من فوق سور الحجرة المنخفض تتبادل حبات الكراميل وأكياس اللب، وتتلامس الأصابع لحظة ثم تنسحب. بعد مرور أيام على العرض تحرك الأهالي من العزب المجاورة لمشاهدة السينما، ولأن المشوار طويل فقد ركبوا حميرهم. ربما تنبأ المنسي بذلك. أعد تذاكر في الشباك بلونين. اللون الأبيض للبني آدمين. والأزرق للحمير. وكان سعر دخول البني آدم ثلاثة قروش والحمار قرشين. وجهز مربط للحمير تحت الشاشة على بعد خطوتين منها، حيث امتدت خشبة طويلة مثبتة في الأرض. وكان صاحب الحمار يرفع عنه البردعة ويضربه خفيفاً على مؤخرته ويمضي إلى الدكة. أخذت الحمير راحتها. كانت تتبادل العض الخفيف في الرقاب وتداعب بعضها بتلامس الرؤوس. كانوا يتهامسون على الدكك: هي الحمير بتفهم؟ شكلها كده بتفهم. كان الفيلم يعرض لحظتها مشهداً عاطفياً لامرأة بين ذراعي رجل يهمس في أذنها. رفعت بعض الحمير سيقانها الأمامية وامتطت الحمير المجاورة لها. هاج المتفرجون وزعقوا. توقف الفيلم وأضيئت الأنوار. نهقت الحمير ووقفت ساكنة. خرج المتفرجون وهم يضربون كفاً بكف. وعلق بعضهم: أما حتة فيلم. خلت السينما في لحظات. وظلت أنوارها مضاءة تبدد عتمة الطريق أمام الجمهور. * أغلق المنسي الحجرة على نفسه. وأخرج عائد الليلة من جيبه، وضع النقود المعدنية في جانب وأوراق النقد في جانب، وراح يعدها.