من ملاحظات شخصية أتوقف أحيانا عند بعض المدن القديمة التي شهدت عصرا ذهبيا للثقافة لأجد أن ذلك ازدهار كان بمثابة اشتعال القش، شديد الوهج سريع الانطفاء، على حين تصبح المدن الجديدة أكثر استقطابا للفعاليات الثقافية لتصبح بحق هي العاصمة الثقافية بلا منازع . لم تستطع "قفط"، العاصمة الفرعونية، أن تسترق بصيصا من الاسكندريةالجديدة التي سرعان ما تحولت عقب تأسيسها بسنوات عاصمة للحضارة الهللينستية في بلاد الشرق كله، وسمي العصر باسمها "عصر الاسكندرية"، ولم تستطع "أثينا" عاصمة الثقافة الأوربية القديمة أن تصمد في وجه مدينة أوروبية قديمة جددت نفسها مثل "روما" أو مدينة شرقية جديدة نشأت مثل "الاسكندرية" أو عواصم أوروبية جديدة للمستوطنات التي استقلت عن روما مثل "جاليا" أو بلاد الغال التي أصبحت فرنسا وعاصمتها باريس، ومثل "هيسبانيا" التي أصبحت أسبانيا أو غيرهما، وما علينا من التاريخ القديم.. توينبي، المؤرخ الشهير، يقول بفكرة الدورات الحضارية التي تنتقل من زمن الى زمن، ومن مكان إلى مكان، مع ذلك فقد يبدو الأمر بالنسبة اليّ أن الدول الحديثة، والعواصمالجديدة لابد تتلافى سلبيات كل ما سبق، من خطط وإدارة، ومن تجهيز وتأسيس. مدينة مثل باريس مثلا احتلت موقع "عاصمة الثقافة الغربية" وتتشبث بهذا الموقع باستماتة، فلا تغريها أموال الاقتصاد، ولا تلهيها تهافت الباحثات عن آخر خطوط الموضة وأعظم أدوات التجميل، أو الملاهي والمقاهي والسهرات بكل أشكالها.. لا تزال باريس هي المدينة الأوروبية الوحيدة التي ينبغي أن يحصل منها الفنان أو الناقد أو الأديب على اعتراف هو بمثابة "شهادة الميلاد" بالنسبة له. وقديما - نسبيا منذ قرنين - كان لابد لأي فنان أن يتعلم في فينيسيا بايطاليا، ثم يسافر الى باريس للاعتراف به، ومن لا يحصل على فرصة لعرض عمل من أعماله في "صالون باريس" فكأنما لم يولد بعد.. معظم التيارات الفنية الجديدة رادها فنانون غير فرنسيين، وكلها انطلقت شرارتها الأولى من باريس. أترك هذا كله وأتوجه مباشرة الى "مدينة الرياض"، تلك المدينة الحديثة والعملاقة بكل المقاييس والمعايير (ربما لأنني أراها الآن من خارجها كما لا يتاح لمن يعيش فيها): أضخم المكتبات في العالم العربي بمدينة الرياض، أكبر وأكثر قاعات العرض للفنون التشكيلية، أكثر وأكبر الأندية الأدبية، جمعية الثقافة والفنون بكل فروعها، الدارة، (ناهيك عن الجامعات العامة والمتخصصة) طاقات الابداع "الكامنة" والمخيفة التي لا تجد متنفسا منظما، ما أن ترد سيرة الشعر على الذاكرة حتى تمطر السماء شعراء مبدعين، وما أن تأتي سيرة الرواية (التي ليس لها رصيد تاريخي) حتى تداهمنا سيول الكتابات الروائية، وما أن ينشط النقد قليلا حتى نرى كتابات مرشحة لصياغة نظرية نقدية عربية..، مهرجانات سنوية تحولت الى تظاهرة ثقافية عربية مثل الجنادرية التي تستقطب أعلام الثقافة العربية من كل الجهات.، ثم أخيرا وزارة للثقافة أنيطت مهامها الى وزارة الاعلام في تلاحم مطلوب، وان كانت لم تعبر عن وجودها حتى الآن بالشكل المطلوب. في مدينة الرياض الناهضة كل المقومات التي يمكن أن تجعل منها "عاصمة الثقافة العربية"، فقط لو أن وزارة الثقافة راجعت خطط التنمية السابقة وترجمت الى الواقع بعض ما ورد بها من مشروعات : "هيئة وطنية للتراث والثقافة" "اكاديمية للفنون" بكل الفروع المقترحة لكل مشروع من تلك المشروعات، ومن بينها "الترجمة من والى العربية ". أعترف أن ما أثار هذا الموضوع كله، خبر قرأته مفاده أن دار "جليمار" الفرنسية الشهيرة بصدد اصدار ترجمة فرنسية في مجلد جديد من "روائع الشعر العربي القديم" من اختيارات الشاعر أدونيس ..!