كان لدينا فن في الماضي ولكن لم نكن نحيط بمختلف أنواعه.. تقريباً كل منطقة تغني داخل إطارها السكاني.. حين تميل أعناقنا بعيداً عن حدودنا مع إيقاعات لحن الصوت في البحرين مرددين: يشوّقني برق من الحي لامع لعل به تسقى الربا والبلاقع وأعتقد أن المطرب والمستمع يصعب عليهما تفسير كلمة "البلاقع".. فإننا ننعطف إلى الجنوب مرددين مع الطرب اليماني إيقاعاته خصوصاً حين يحلق قائلاً: يا نجم يا سامر.. سامر فوق المطله كل من معه محبوبه.. وأنا لي الله.. لي الله.. لكن ما كنا بحاجة إلى الامتداد إصغاءً نحو ما وراء جنوبنا أو ما بعد شرقنا، لأن النغم الحجازي كان معلناً عن وجوده بتفوق له خصوصياته، وتنافس طارق عبدالحكيم وطلال مداح على كرسي الأولوية.. ثم أتى "فنان العرب" الذي لو شكك أحد في شمولية هذا اللقب لما شكك بأنه مطرب السعودية كلها وهو يستحق شمولية العرب لأنه متميز ليس بصوته فقط ولكن بسلوكياته المثالية حين يغني.. محمد عبده يقدم اللحن والصوت في التلفزيون أو عبر المسارح، بينما معظم الآخرين غيره يقدمون أجساد الراقصات بالعشرات ليكنّ هنّ اللحن والطرب.. محمد عبده لا يفعل ذلك وطاولات حفلاته مقصورة على العصائر والمياه.. وهذه نموذجية غير موجودة إطلاقاً إلا عند فنان العرب.. وعندما أضيف خصوصية "السعودية" فلأنه الوحيد الذي قدم لنا ألحان الوسط والشمال والجنوب من كل مساحات المملكة.. فحين تستمع إلى اللهجة الجازانية في ترديده: يا نسيم الصبا سلّم على باهي الخد.. نبّهه من منامه من رأى غرّته هلّل وكبّر وشهّد.. بدر ليلة تمامه تجزم أنك أمام أبرع إيقاع لفظي، لكنك تشك في هذه المعلومة حين تقفز إلى إيقاعات سامري القصيم عندما يردد: كريم يا بارق ينوض حدري واللي سرى بالغداري يقتدي به مع جزمي بأن كثيراً من شباب اليوم لا يعرف معنى "ينوض" أو "الغداري".. لقد استحق شموليته لأنه غنى بكل اللهجات وإيقاعاتها.. ويبدو كأن أهالي المنطقة الوسطى شعروا بوجود فراغ فني بعيد عن المنافسة حيث توجد الأغنية لكن لا يوجد اللحن المتجدد.. الأمر الذي جعلهم يفرحون بالحضور الفني للمرحوم الفنان سعد إبراهيم الذي نوّع الألحان وحقق شهرة واسعة في زمن وجيز.. ومن الطريف أن ما غناه في الماضي - أي قبل أربعين عاماً تقريباً - من المستحيل أن يؤديه في هذه السنوات.. ألم يردد الناس معه أغنية "ألا يا عين هلّي" والتي بين كلماتها قول الشاعر: إذا صفيت أصلي.. طرى خلي عليّه.. يهوجس فيه بالي.. إذا صفيت أصلي والشاعر موجود ندعو له بطول العمر وهو رجل نظيف للغاية لكن السلوك شيء والخيال الفني شيء آخر.. نعم لدينا فن.. لكن ما حاولنا أن نقتحمه - وكان لابد أن نفشل - هو "التمثيل".. فالأعمال التلفزيونية ليست إلا أداءً شخصياً تكرر فكرهه الناس.. ليس هناك رواية.. ليس هناك موضوع.. إذاً كيف يصبح ذلك التهريج الفاضح والسخيف أعمالاً فنية؟.. كيف نقارنها مع الأداء المصري.. مع التميز السوري؟.. المضحك أن لدينا أصحاب قدرات تمثيل لكن ليس لدينا أصحاب قدرات تأليف لأعمال تلفزيونية لها خصوصية أداء مختلفة عن غيرها..