الملك وولي العهد يعزيان أمير الكويت    قطار الرياض.. صياغة الإنسان وإعادة إنتاج المكان    رئيس هيئة الغذاء يشارك في أعمال الدورة 47 لهيئة الدستور الغذائي (CODEX) في جنيف    سعود بن مشعل يشهد حفل «المساحة الجيولوجية» بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها    رئيسة "وايبا": رؤية المملكة نموذج لتحقيق التنمية    تطوير الموظفين.. دور من ؟    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    20 مليار ريال مشروعات وعقود استثمارية أُبرمت لخدمة الشرقية    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    إمدادات الغذاء لغزة لا تلبي 6% من حاجة السكان    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    «أونروا»: مليونا نازح في غزة تحت حصار كامل    ولي العهد يتلقى رسالة من رئيس جنوب أفريقيا.. ويرعى المؤتمر العالمي للاستثمار    ضمن الجولة 11 من دوري«يلو».. نيوم يستقبل الباطن.. والجندل في اختبار العدالة    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الهلال ضيفاً على السد القطري    « هلال بين خليج وسد»    الهلال يتوعد السد في قمة الزعماء    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    311 طالباً وطالبة من تعليم جازان يؤدون اختبار مسابقة «موهوب 2»    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير تبوك يستقبل القنصل الكوري    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    جازان: انطلاق المخيم الصحي الشتوي التوعوي    بدء التسجيل لحجز متنزه بري في الشرقية    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    القيادة تهنئ السيد ياماندو أورسي بمناسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية في الأوروغواي    الاحتفاء بجائزة بن عياف    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    7 أجانب ضمن قائمة الهلال لمواجهة السد    بنان يوسع مشاركات الحرفيين المحليين والدوليين    الرخصة المهنية ومعلم خمسيني بين الاجلال والإقلال    الباحة تسجّل أعلى كمية أمطار ب 82.2 ملم    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    تعليم جازان يحتفي باليوم العالمي للطفل تحت شعار "مستقبل تعليمي أفضل لكل طفل"    وكيل إمارة المنطقة الشرقية يستقبل القنصل العام المصري    حسين الصادق يستقبل من منصبه في المنتخب السعودي    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مبدأ التغليب والترجيح يتأسس على قانون كوني
نشر في الرياض يوم 19 - 10 - 2008

إن التفكير الثنائي (إمَّا وإمَّا) من أغرز منابع الجهل وأقدم أسباب الجور وأوضح سمات التخلف كما أنه من أقوى موانع النهوض فالمجتمعات المتخلفة لا ولن تستطيع الإفلات من قبضة التخلف إلا إذا هي أدركت خطأ التفكير الثنائي واقتنعت بالنسبية وبتعدد الأسباب وبتداخل الأشياء وبامتزاج الصفات وباجتماع النفع والضرر في الشيء الواحد وباجتماع المزايا والنقائص في الشخص وباجتماع العلم والجهل والخير والشر والصواب والخطأ في الفرد الواحد وبأن الأحكام على الأشخاص والأعمال والأشياء والأفكار والمواقف والتصورات تبنى على الغالب وتقوم على الترجيح وبذلك تتخلى عن الرؤية الأحادية المغلقة التي تحجب الحقيقة وتعمي البصيرة وتكرس التعصب وتكبل العقول وتورث الانغلاق وتتسبب في الظلم وتحمي الجهل وتنمي الوهم وتمنع النمو وترفض مقومات الازدهار ومن هنا جاء اهتمامي بمبدأ التغليب والترجيح بوصفه من أهم سمات العقل العلمي وليس هذا المقال سوى فصل من بحث واسع يتناول ظواهر كثيرة في هذه الحياة كلها تشهد لامتداد وشمول هذا المبدأ وتؤكده.
وإذا كان العلم بأدق معانيه قد أحلَّ الاحتمال محل الحتم والظنَّ محل اليقين حيث باتت الأحكام العلمية أحكاماً ترجيحية وآنية وقابلة للتفنيد والمساءلة فإن من الاكتشافات العلمية الهامة التي تدفع في نفس الاتجاه وتؤكد أن مبدأ التغليب والترجيح هو قانونٌ كوني عام: اكتشاف التداخل بين الذكورة والأنوثة حيث أظهر العلم بأنه لا يوجد بيولوجياً ونفسياً ذكورة محضة ولا أنوثة خالصة وإنما في أعماق كل امرأة ذكر وفي أعماق كل رجل أنثى، فالذكورة أو الأنوثة تقوم على التغليب والترجيح وليس على التقابل المطلق خلافاً لما نتوهم فهرمونات الذكورة موجودة أيضاً عند المرأة فإذا زادت عندها عن المستوى الطبيعي تميزت بقوة العضلات وخشونة الصوت وعنف السلوك، وفي أحيان نادرة قد يظهر شيء من الشعر في وجهها، وبالمقابل فإن هرمونات الانوثة موجودة في الرجال فإذا زادت عند الرجل عن المستوى المعتاد لان طبعه وقلَّ شعره ونَعُم صوته وقربت تفاصيل جسده من جسد الأنثى ومن هنا جاءت إمكانية تحويل الذكر إلى أنثى وتحويل الأنثى إلى ذكر عن طريق بعض التعديلات العضوية جراحياً وزيادة مقدار هرمون الأنوثة للذكر الذي يراد تحويله إلى أنثى أو زيادة هرمون الذكورة للأنثى التي يراد تحويلها إلى ذكر ومن البداهة أن ذلك ليس بمستطاع البشر لو لم يكن موجوداً في أصل الخلقة فالذي مكَّنهم من هذا التحويل هو أن الهرمونين موجودان في الذكور والإناث ولكن بنسب متفاوتة ترجِّح الذكورة أو الأنوثة، بل إن تركيب الهرمونين ليس مختلفاً في عناصره وإنما الاختلاف فقط في الوضع والاتجاه كما يؤكد ذلك العالم إسحاق أزيموف.
ولأن الناس قد اعتادوا على تصوُّر التضاد الكامل بين تكوين وبنية الذكورة والأنوثة فإن (بويتنديك) رأى أن الناس لن يلتفتوا لهذا التداخل ويفطنوا لهذا الازدواج الذي تؤكده حقائق العلم إلا إذا صدمهم به صدماً قوياً فأكد في كتابه عن (المرأة) بأن: "الرجل الطبيعي هو مذكَّر بنسبة 51% ومؤنث بنسبة 49% وأن المرأة الطبيعية مؤنثة بنسبة 51% ومذكَّرة بنسبة 49%" لقد أراد بهذا التأكيد أن يثير الاهتمام ويشد الانتباه لهذا الكشف العلمي الهام لأن غيابه التام عن أذهان الناس يستدعي هذا الصدم لخلخلة الوهم الراسخ الذي يفصل بين الرجل والمرأة فصلاً كاملاً. أما البروفيسورة ميليسا هاينز فتقول في كتابها (جنوسة الدماغ): "وفي الواقع وعلى الرغم من أن معظمنا يبدو على أنه إما ذكر بوضوح أو أنثى بوضوح فإن كلاً منا هو فسيفساء معقدة من السمات الذكرية والأنثوية" أما الذي يعنينا من كل هذا فهو التأكيد بأن مبدأ التغليب والترجيح يتأسس على قانون كوني عام وأن التفكير الثنائي هو أحد الأوهام البشرية المزمنة التي كبَّلَتء العقول ونافرت الثقافات وخلقت العداوات وأجَّجت الحروب وبررت العدوان وابطأت بسير الحضارة الإنسانية وملأت الدنيا بالجور والتنافر والقطيعة والحقد والضغينة.
إن مبدأ التغليب والترجيح مبدأ عام يسري على كل ما في هذه الحياة الدنيا وقد كشفت علوم العصر وحقائق الواقع استحالة النقاء المطلق وأبرزت حقيقة التداخل والازدواج فإذا حصل الالتزام بهذا المبدأ الأساسي الشامل تكون الرؤى والتقييمات والأحكام أقرب إلى الواقعية والموضوعية والعدل فلا ننتظر من الأشياء أن تكون خيراً محضاً ولا نحكم عليها بأنها شرٌّ محض، وإنما طبقاً لهذا المبدأ يكون الحكم قائماً على التغليب والترجيح فإذا زاد النفع عن الضرر في الشيء عُدَّ نافعاً وإذا رَجَحَ الضرر عُدَّ ضاراً، وكذلك لا نتوقع من الشخص أن يكون كاملاً وإنما يجري تقييم أفكاره وأقواله وأعماله وفقاً للغالب من أمره ومثل ذلك يقال عن الأعمال والأحداث والأوضاع والمواقف وعن كل أشياء هذه الحياة.
ولعل تداخل الذكورة والأنوثة اللذين يتبادر إلى الأذهان أنهما مفترقان أشد الافتراق يمكن اعتباره من أبرز الأدلة على شمولية مبدأ التغليب والترجيح فقد أثبت العلم أنهما متداخلان أشد التداخل وأن الفرق بينهما هو مجرد تغليب وترجيح فهما موجودان معاً في الذكر والأنثى فيصير الجنين ذكراً أو أنثى بالتغليب والترجيح فقط فإذا زاد هرمون الذكورة على هرمون الأنوثة صار الفرد ذكراً أما إذا زاد هرمون الأنوثة ورجح على هرمون الذكورة فإنه يصير أنثى والذي يعنينا من هذه الحقيقة البيولوجية هو دلاتها على خطأ التفكير الثنائي فهذه الحقيقة الصارخة تؤكد شطط الرؤية الأحادية وبعدها عن الحق ومخالفتها لحقائق الكون ونتائج العلوم.
يشير الفيلسوف الفرنسي غارستون باشلار في كتابه (شاعرية أحلام اليقظة) إلى هذا الازدواج في التكوين الإنساني ذكوراً وإناثاً فيقول: "فلا عجب أن نعرِّف أنفسنا في آن بالمذكَّر والمؤنث" ثم يوضح أن: "مدرسة يونغ بيّنَتء بأوضح ما يكون أن النفسية الإنسانية هي في بدائيتها متعلقة بالجنسين معاً" أي بالازدواج في تكوين الذكرَّ والأنثى ويرى أن: "ديالكتية المذكَّر والمؤنث تسير على وزن الأعماق تسير من الأقل عمقاً (المذكَّر) إلى العميق دوماً (المؤنث) وأن: الرجال والنساء يعرفون كيف يستخدمون قوتهم المزدوجة.
إن البنية الأساسية للذكر والأنثى تتكون من ستة وأربعين صبغياً (كروموزوم) وهذه الصبغيات تتآلف في أزواج أحدهما يأتي من الأب والثاني من الأم، فالجنين يتكوَّن من مزيج متساو من أبيه وأمه ولكن هذا التساوي في الخلية الأولى يعقبه انفراد الأم باحتواء الجنين في رحمها تسعة أشهر يشاركها في كل شيء ويتأثر بسعادتها وبشقائها وتظهر عليه آثار مرضها وصحتها فالأم هي الأكثر تأثيراً على المولود إن جسم الجنين سواء كان ذكراً أو أنثى يتكون من أزواج من الصبغيات الآتية من الأب ومن الأم مع زوج صبغي جنسي واحد ويكون هذا المزدوج الصبغي (xx) في الأنثى أما في الذكر فيكون (xy) وهذا هو الفارق الوحيد أثناء التكوين ولأن الصبغي (y) معه شريكٌ لا يماثله ولأنه أيضاً شديد الصغر قياساً بالصبغيات الأخرى فإنه يبقى ضعيف البنية بخلاف الصبغي الأنثوي فإن زَوءجَيءه كبيران ومتماثلان وينوب أحدهما عن الآخر عند العطب ومن هنا تأتي زيادة المواليد المشوَّهين في الأبناء وتقلُّ في البنات.
ولأن بنية الإنسان سواء كان ذكراً أم أنثى تتكوَّن من النطفة ومن البويضة ومن هذا المزيج المتساوي ينمو حتى يكون بشراً سوياً، فإن العالم الأمريكي الشهير إسحاق أزيموف يوضح في كتابه (عناصر الحياة) أن الفرق بين الرجال والنساء هو فرقٌ ترجيحي فيؤكد ما هو معروف من أن: الهرمونات مسؤولة عن كل الاختلافات التي بين الرجال والنساء وأن: الهرمون المسؤول عن ترجيح الأنوثة يسمى (الاستروجين) والهرمون المسؤول عن ترجيح الذكورة يسمى (الاندروجين) ثم يؤكد النقطة المهمة وهي: "أن الأعضاء التناسلية لدى جميع الناس (من الرجال والنساء) تفرز النوعين معاً ولكن في حالة النساء تنتج استروجينات أكثر وفي حالة الرجال تنتج أندروجينات أكثر" ليس هذا فحسب بل إن: "الاستروجينات لا تختلف كثيراً عن الاندروجينات فأهم استروجين مثلاً هو استيرويد يسمى (استرون) بينما أهم أندروجين استيرويد يسمى (تستوستيرون) وتتألف جزئياً كل من هذين المركِّبين من أربع حلقات ولكن الاسترون يحوي اكسيجيناً في قمة الجزيء ومجموعة من الأوكسجين والهيدروجين في أسفله أما في التسوستيرون فالوضع مقلوب: الأكسجين في أسفل الجزيء ومجموعة الأوكسجين والهيدروجين في قمته ويكاد يكون هذا الفرق الوحيد بين الهرمونين فكأنما الاسترون والتستوستيرون نفس المركَّب ولكنه متجه في اتجاهين متضادين وهكذا الحال بالنسبة للأستروجينات والاندروجينات وفي الطفولة يتشابه الذكور والإناث تقريباً لأن هرموني الذكورة والأنوثة ما زالا غير ناشطين.
وتقول الدكتورة مارجريت ستيرن في كتابها (المشاكل الطبية المحرجة): "إن الهرمون الذكري الأساسي هو التستوستيرون ودم الرجال والنساء يحتوي على هرمون التستوستيرون إلا أن نسبته لدى الرجال أعلى" وتتحدث عن تساقط شعر الرأس عند بعض النساء وتعيد ذلك إلى وجود الهرمون الذكري لديهن مؤكدة مرة أخرى بأن: كل النساء لديهن هذا الهرمون وبالمقابل فإن هرمون الاستروجين الأنثوي موجود عند كل الرجال وتقول: "فإذا كان هناك هبوطٌ في مستوى التستوستيرون أو ارتفاع في مستوى الاستروجين فهذا سوف يحث الثدي على النمو" وتذكر أن 25% من الفتيات لديهن شعر على الوجه بشكل واضح وملحوظ وتقول: "يظهر الشعر الزائد عند النساء غالباً في المناطق التي يظهر فيها الشعر على أجساد الرجال" وتعيد هذه الظاهرة إلى وجود هرمون الذكورة في دمائهن حتى لو بقي بالمستوى الطبيعي والسبب هو حساسية الجلد عند بعض النساء لتأثير هذا الهرمون وليس فقط لزيادته في الدم.
ويؤكد الدكتور على كمال في المجلد الثاني من كتابه (الجنس والنفس) بأن الأدلة من العلم والبيولوجيا والطب وغيرها تؤكد ثنائية الجنس وبأن هناك من النظريات والبيِّنات ما يؤيد الاعتقاد بأن كل إنسان سواء كان ذكراً أو أنثى يملك في ذاته خصائص يتصف بها الجنس المغاير بصورة غالبة كما يرى بأن هذا التداخل بين الذكورة والأنوثة من عوامل التلاحم والتواد فهو يقرِّب طباع الطرفين ويدمج صفاتهما ويجعل أحدهما منجذباً للآخر لقربه منه ومشاركته إياه في صفاته وتكوينه أي أن التدخل بين الذكورة والأنوثة ذو نفع لهما معاً وأنه لذلك موجودٌ دائماً في كل رجل وكل امرأة لكنه في الغالب يكون في حدوده الطبيعية غير أنه في حالات نادرة قد يكون واضحاً ومؤثراً بعض التأثير لكن من يعاني منه لا يدرك سبب هذه المعاناة فلا يعرف أنها تعبيرٌ عن فقدان التوازن وقد يختل هذا التداخل اختلالاً شديداً فيرتفع مستوى الهرمون المرجوح فيصير راجحاً وهنا يحسُّ المرء بالحاجة إلى تغيير جنسه وهذا منتهى التأرجح الذي يتطلب تدخُّلاً طبياً وهذا لا يحصل إلا في حالات نادرة جداً.
ويستعرض الدكتور علي كمال في المجلد الأول من كتابه (الجنس والنفس) الأدلة العلمية لثنائية الجنس ثم الأدلة البايولوجية ثم البينَّات الطبية ويذكر بأن العلماء اهتموا بهذا المجال بعد أن أكد دارون (ثنائية الجنس) في كتابه (نزول الإنسان) ويقول الدكتور علي كمال: "وقد كان لملاحظة دارون أثرها القوي في توجيه اهتمام العديد من العلماء إلى بحث موضوع ثنائية الجنس واشترك في هذا الاهتمام علماء من مجالات عدة منها البايولوجيا والحيوان وعلم النفس واخصائيي الحياة الجنسية" وقد تضافرت النتائج من كل هذه المجالات لتأكيد ثنائية الجنس وهذا التداخل بين الذكورة والأنوثة لا يهمنا إلا بمقدار انضمامه للأدلة الأخرِى الكثيرة التي تؤكد خطأ التفكير الثنائي وما ينتج عنه من إدعاء ساذج وجاهل بامتلاك الحقيقة المطلقة ونفيها عن كل الآخرين ويترتب على هذا الإدعاء أو هذا الوهم وتوقٌ مطلق وتعصُّبٌ أعمى وانغلاقٌ مستحكم واستبعادٌ للاحتمالات الممكنة وانسدادٌ للآفاق وتسفيهٌ للاجتهاد واستخفافٌ بالإبداع ورفضٌ للتساؤل واستهانةٌ بالاستشكال وبُعءدٌ عن العدل ومنافاةٌ للواقع.
وينقل الدكتور علي كمال عن العالم كايرنان تأكيده لثنائية الجنس كما ينقل عن كتاب (السايكوباتية الجنسية) للعالم (كرافت ايبنج) قصة المرأة التي تابع حالتها هذا العالم فقد فوجئت تلك المرأة وهي في الثلاثين من العمر بظهور شعر لحيتها ونمو الشعر على بطنها وصدرها كما طرأ تحوُّل جذري على صوتها كما أن أعضاءها التناسلية الخارجية أظهرت علامات تحول ذكري واستنتج (ايبنج) من هذه الحالة أنه يوجد جنس مغاير يكمن في كل إنسان وبأن هذا المغاير يمكن أن يظهر إذا حدثت محرِّضات طارئة تقلب المعادلة فتجعل الهرمون الراجح مرجوحاً والمرجوح راجحاً!!
ويقول الدكتور علي كمال: "ومن العلماء الذين أبدوا اهتماماً بثنائية الجنس العالم (فلايس) وكان فلايس هو الذي أقنع فرويد بأن جميع الناس ثنائيو الجنس وبأن ذلك حقيقة فيزولوجية وبأن لهذه الحقيقة تأثيرها في تكوين الأمراض النفسية فقد كان فلايس صاحب نظرية الدورية في الأنثى والذكر وبأن الجنين الإنساني هو ثنائي الجنس في أدواره الأولى وأن ما يحدث بعد ذلك هو غَلَبَةُ طرف واحد من هذه الثنائية على الطرف الآخر غير أن الطرف الآخر لا ينعدم وإنما يُكبت وهكذا فإن اللاوعي يحوي في نواته الطرف الأضعف وهو في كل إنسان يتطابق مع الجنس الآخر وهذا يعني أنَّ تغلُّب جنس الذكر يؤدي إلى كبت الجزء الأنثوي الضعيف في الفرد والعكس بالعكس وتظل قوته كامنة في اللاوعي وقد جاء (فلايس) بملاحظات مثيرة لإثبات نظريته بأن ثنائية الجنس هي منبت الانفعالات البايولوجية النفسية ثم ملاحظته عن عدم التناسق بين الناحية اليسرى والناحية اليمنى من الجسم فالناحية اليمنى في الجسم تمثل الجزء الذكري من الفرد والناحية اليسرى تمثل الجزء الأنثوي ولذلك فإن الفرد يمتلك في جسده الخصائص الذكرية والأنثوية معاً" وهكذا نجد أن العلم يشير إلى ما كنا نعدهما شديدي التعارض والانفصال لا يفصلهما سوى فارق ترجيحي، وهذا يؤكد التداخل في كل الأشياء وأن الأحكام تبنى على الغالب وأنها ظنية ترجيحية وهذه الحقيقة البيولوجية تنضاف إلى حقائق كثيرة تؤكد انتفاء الخير المحض والشر المحض في هذه الدنيا كما تؤكد خطأ الوثوق المطلق، وتستوجب الاستقصاء الشديد قبل إصدار الأحكام على الأشياء والأشخاص والأحداث والمواقف فالحقائق ليست بالوضوح ولا بالمحض الذي نتوهَّم وإنما هي شديدة الخفاء فلا تتجلى إلا للذين يبذلون الجهد الصادق في استخلاصها والتحقُّق منها ويبقون مع كل الجهد معترفين بقصورهم وإمكانية حصول الخطأ منهم.
وينقل الدكتور علي كمال قول فرويد: "بدون أخذ الثنائية الجنسية بعين الاعتبار فإني لا أعتقد أنه بالإمكان أبداً فهم الظواهر الجنسية التي تلاحظ في الذكور والإناث" كما ينقل عن جورج جرودك قوله: "إن الإنسان ثنائي الجنس طوال حياته" كما ينقل عن العالم (هافلوك إليس) تأكيده من أن ثنائية الجنس هي حالة بيولوجية ويورد الدكتور علي كمال أربعة أدلة بيولوجية ليؤكد: بأن ثنائية الجنس هي جزء من طبيعة الإنسان وينتهي في بحثه المفصل في المجلد الأول من كتابه (الجنس والنفس) إلى: أن الجنسية الثنائية إنما تفترض وجود قاعدة مشتركة بين الجنسين وبدرجات متفاوتة من المشاركة غير أن النمو الكامل للفرد ليس نمو أحد طرفي هذه الشراكة وإنما نمو الاثنين معاً.
يوضح الدكتور سينوت حليم دوس في كتابه (الجنس الثالث) بأن التكوين الذكري أكثر تعقيداً فكأن الذكورة انتقالٌ من حالة الإطراد أو هي شيء إضافي يتميز به الذكور عن الإناث فيقول: "الأساس أن يتم التكوين على هيئة أنثى ما لم تتدخل هرمونات الخصية لإحداث الأثر العكسي" ليكون ذَكَرَاً ويؤكد بأن: "أعضاء الإناث أعضاء محايدة لا نوعية" ويقول: "بعد التلقيح ينمو جنين كل من النوعين نمواً متشابهاً حتى تظهر الخصية في الجنين الذكر وتبدأ في إفراز التستوسترون وتحت تأثير هذا الهرمون تتحول الأعضاء التناسلية الخارجية إلى شكلها المميز فإذا اختل إفراز التستوسترون ظهرت أعراض الأنوثة في الجنين الذكر" ويشير إلى ما كان معروفاً عن العبيد الخصيان الذين كانوا يخدمون في القصور فهم بعد خصيهم تنسلخ عنهم علامات الذكورة حيث يتساقط الشعر كلياً عن وجوههم وأبدانهم وتغلب على أجسامهم كما يقول الدكتور دوس: مظاهر الأنثى في توزيع الشحم على الجسم فيتضخم الثدي وتتركز الشحوم على الاليتين مع نعومة في الصوت ورقته بما يشبه صوت الأنثى.
وما يهمني من كل ما سبق هو إسهام هذه الحقيقة في بيان خطأ التفكير الثنائي ولفت النظر إلى الضرر الذي ينجم عن النظرة الجزئية والتركيز على جانب واحد من أي شيء وإهمال الجوانب الأخرى، فلعل هذا التنبيه يساعدنا في أن ننظر بإمعان وعناية إلى كل وجوه التداخل والتشابك والامتزاج وألا نتسرع في إصدار الأحكام وفي تكوين الآراء وأن تكون أحكامنا وآراؤنا وأفكارنا وتصوراتنا مبنية على استقصاء كل الوجوه والتحري عن كل الاحتمالات، وبعد ذلك كله نستبقي كل الأبواب والنوافذ مفتوحة للمراجعة والتدارك والتصحيح والنمو الدائم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.