المتأمّل في وحشيّة العمليّات العسكريّة لجيش الاحتلال الإسرائيلي في غزّة والبلدات الفلسطينيّة وتصفيته لنخبة قادة حماس، ومن ثم التمركز على الحدود اللبنانيّة وتصفية الصف الأول والثاني تقريبًا من قيادات حزب الله، وكذا بعض العمليّات في اليمن يخرج بالعديد من الاستنتاجات، وأوّل هذه الاستنتاجات من الناحية الاستراتيجيّة أن إيران المتضرّر الكبير من قصقصة أذرعها وحلفائها الأهم في المنطقة، إذ من المعلوم أن إيران الملالي حافظت عبر تاريخها الطويل على هدوء محسوب مع إسرائيل والاكتفاء طيلة هذه العقود الماضية بالشعارات ودعم وإنشاء الميليشيات التي تتفاوض بها وعليها مع إسرائيل والغرب والشرق ودول عربيّة عدّة. وقد خدمت هذه الميليشيات جهود تطابق مصالح الإسرائيليين ومن ورائهم الأميركيين أكثر من مرّة في هذا الجزء من العالم ولا سيما ما حصل قبل احتلال العراق 2003 وما بعده من توافقات لإعادة تشكيل المشهد السياسي والديموغرافي العراقي الذي مكّن طهران من أن تكون لها اليد واللسان الأطول على مقدرات العراق وشعبه وعلاقاته. الإسرائيليون من جهتهم وجدوا -في السابق- أن احتمال بعض الضرر من الميليشيات التابعة لإيران ممكن كون هذه الميليشيا تكثف معظم جهدها الدعائي والقتالي ضد بلدان عربيّة ولدورها في إطالة حالات اختلال الأحوال السياسيّة والأمنيّة في البلدان المصابة بفيروساتها مثلما هو الحال في لبنانوالعراق وسورية واليمن. ولكنّ هذا التمتّع السياسي المتبادل بين طهران وتل أبيب لم يعد بذات المكانة كما تكشف الأحداث، إذ مع أنّ الملالي ابتلعوا الإهانات الإسرائيليّة المتتالية وأظهروا استعدادًا لابتلاع المزيد إلّا أن كسر مخالبهم المصنوعة للهيمنة على المنطقة باسم "محور المقاومة" قد يعني افتراق خطوط التقاء المصالح بين طهران وتل أبيب. إسرائيل تعرف جيّدا أن المنطقة والعالم على وشك دخول حِقْبَة جديدة ستتبدّل فيها خرائط التحالفات، ومراكز القوى والمصالح وأنّ من لا يتموضع جيّدا ستقتلعه ريح التغيير التي بدأ هبوبها، ويعلم قادة إسرائيل المعزولة عن جوارها أنّهم سيكونون في مقدمة التغيير، ولهذا فإنّ تل أبيب تسابق الزمن للتخلّص من بعض مصادر القلق بدءًا بالميليشيات ولن يكون الطموح النووي الإيراني ببعيد عن قائمة الأهداف القادمة لإسرائيل إذ إن دولة نوويّة ثوريّة في المنطقة ستكون خطرا محققًا لا محتملًا. وسيكون الصيد سهلا إذ اكتشفت تلّ أبيب مدى هشاشة البنية العسكريّة والاستخباريّة الإيرانيّة وكذا ارتعاش الرد الإيراني أثناء وبعد عمليّاتها في الداخل الإيراني، وتعزّز هذا الشعور في كلّ العمليّات الموجهة ضد إيران إذ ظلّت الردود الإيرانيّة عصبيّة أمام الميكرفونات ضعيفة في الواقع، وتأكّد ذلك في تفاهمات وتسريبات طهران لردود أفعالها المحسوبة جيّدا على عمليّة اغتيال إسماعيل هنيّة وقبلها وبعدها سلسة الاغتيالات في غزّة ودمشق وأخيرًا ما حصل من تصفية في لبنان لحوالي 30 قائدًا مهمًا من حزب الله رأسهم الحليف المخلص لطهران حسن نصر الله وثلاثة من خلفائه. ومن عجائب التناقضات هنا أن طهران وتلّ أبيب تجمع بينهما صفتان أساسيتان: أولاهما، كراهيَة العرب، وثانيهما، الغدر بالحلفاء دون ندم، وإذا أضفنا إلى هاتين الصفتين عقدة التاريخ عند كلّ منهما، فلنسمع حكم التاريخ القائل: إن من اجتمعت فيه هذه الصفات فمصيره صفحة بائسة في كتاب الغابرين. * قال ومضى: من يعش على (صوت) الماضي، سيعاقبه التاريخ (بسوط) الحاضر..