من يقرأ الأحداث جيّدا يرى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي وحكومة التطرّف في تل أبيب في سباق مع الزمن لتثبيت وتعزيز موقع الدولة المزروعة في الشرق الأوسط سواء من طريق العمل السياسي أو توسيع التعاون الاقتصادي والأمني مع دول في المنطقة. ولكنّ الوسائل الأكثر إجرامًا هي تلك التي تتمّ عبر العمل العسكري والقتل والتدمير كما هو الحاصل على غزّة والبلدات الفلسطينيّة، ويمكن أن يُضاف إلى مظاهر هذا السباق المحموم مع الزمن العمليّات العسكريّة الإسرائيليّة في الحديدة وطهران وسورية وأخيرًا لبنان وانتهاء باغتيال خاطف لبنان ومرتهن قراره السيادي حسن نصر الله. والسؤال الكبير هنا: كيف فتحت إسرائيل على نفسها كل هذه الجبهات في وقت واحد؟ وما الدوافع والغايات من إشعال جوارها العربي والداخل الفلسطيني والتمدّد حتى عمق مخابئ الحرس الثوري في طهران لاغتيال إسماعيل هنيّة ثم التركيز العسكري على الضاحية واغتيال حسن نصر الله في ذروة اجتماعات الأمم المتّحدة ودعواتها لتخفيض التصعيد؟ يمكن هنا رصد أبرز خمسة تحولات كبرى في المنطقة والعالم ربما تكون هي ما دفع تل أبيب إلى العمل العسكري الحاسم على أكثر من جبهة وتتضمن: أولًا: استثمار الوضع الدّولي قبل ظهور الآثار الأعمق للتغير الجيوسياسي العالمي وانعكاساته على التحالفات وتأثيرات الرأي العام العالمي على الأحداث. إذ ربما رأت إسرائيل أن أهميتها كمخلب للقوى الغربيّة، وكقطّ مدلّل للقوى الشرقيّة في خفوت مع تغير المصالح والاستراتيجيّات. ومن ملامح ذلك استمرار الحليف الرئيس (الولايات المتّحدة) في تقليص تدخّله العسكري المباشر في المنطقة، مع تركيزه على الدبلوماسيّة، وتعزيز التحالفات الإقليميّة مع دول عربيّة وإسلاميّة أخرى. ثانيًا: انتهاء (ربما انكشاف) تأثيرات اللعب الغربي الإسرائيلي بتناقضات النظام العربي والإسلامي مثل تقوية إيران الشيعيّة على حساب محيطها السني، وإعطاء تركيا (القوميّة) دوراً أكبر بصفة زعيم سني (في محيط عربي) وحصار أي فعل حقيقي خاصة فيما يتعلق بحقوق الفلسطينيين. هنا يبدو أن تل أبيب تقرأ مستقبل تصالح القوَى الإقليميّة التي تركت البعد الطائفي والقومي وراءها كما حصل بين المملكة العربية السعودية ومصر مع كل من إيرانوتركيا. ثالثًا: استثمار عدم قدرة إيران على الردّ والتدخّل وتفضيلها ابتلاع الإهانة تلو الأخرى؛ بسبب الخوف من الانجرار إلى حرب شاملة لا قِبل لها بها، إضافة إلى عمق التحدّيات الاقتصاديّة والسياسيّة في الداخل الإيراني. وإسرائيل تعرف أن طهران في هذه المرحلة التاريخيّة في ورطة مع الوكلاء (المكلِفين ماديًا وسياسيًا) وأنّها بلا حلفاء حقيقيين ذوي وزن، كما أنّ الحلفاء المحتملين مثل روسيا والصين والهند مشغولون بإعادة التموضع والاستعداد ولا تستحق إيران -في حساباتهم الاستراتيجيّة- أيّ تضحيات استراتيجيّة في مرحلة حساسة. رابعاً: ربما قرأ الإسرائيليون التاريخ جيّداً ليصلوا إلى حقيقة أن التحالفات والمصالح (مع قوَى إقليميّة) التي بنوها على الابتزاز الاقتصادي والسياسي، وصناعة المنظومات والدمى هنا وهناك لم تعد صالحة في عصر المعلومات والوعي الجماهيري. خامسًا: تتحرّك إسرائيل في عمليّاتها بسرعة واضحة بغية تحقيق أهدافها العسكريّة قبل أن تضطرها (تحت ضغط الرأي العام العالمي) هيئات مثل الأمم المتّحدة أو قوَى كبرى مثل الولايات المتّحدة وروسيا وأوروبا لوقف عملياتها. * قال ومضى: كل الحروب تصنع حلولًا؛ ولكنّها تزرع مشكلات لا حلول لها.