لست هنا لأبرئ الدولة الإسرائيلية أو أجهزتها الأمنية من اغتيال العالم الإيراني محسن فخري زاده نهاية الشهر الماضي ولا لأجل أن أقر سياسة الاغتيالات، لكن مشكلة النظام الإيراني أن أعداءه أكثر من أن يحصوا في كل العالم ومن كل جهات الأرض الأربعة، وقلما نجد دولة لم يتدخل النظام الإيراني فيها بشكل أو بآخر وبالتالي عندما تجري عنده عمليات اغتيال فإنه لا يستطيع توجيه أصابع الاتهام سريعاً لدولة بعينها ومن هنا فهو يختار «إسرائيل» دائماً لتحويل فشله الأمني والاستخباراتي إلى تجييش ديني ومذهبي يرفع من شعارات النظام ويعزز من بكائيات ملالي ولاية الفقيه. بداية لا بد أن نعرف من هو هذا الرجل في المفهوم الإسرائيلي ذلك أن «إسرائيل» الرسمية لا تعلق عادة على الأنباء التي تشير إليها كمن نفذ أو ساهم بشكل كبير في الاغتيال لكن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، سارع للظهور في شريط مصور من بيته حال كشف اغتيال فخري زاده قائلا «لا أستطيع الإعلان عن كل إنجازاتي هذا الأسبوع، لكنها كثيرة»، وأيضا بالنظر في كتاب الكاتب والخبير الأمني الاسرائيلي يوسي ميلمان الأخير تحت عنوان «جواسيس غير مثاليين» نجد أنه ذكر أن فخري زاده يعتبر «دماغ ومدير البرنامج النووي العسكري الإيراني» ويضيف أن الموساد وشعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي (أمان) فشلا في السابق في تحديد موقعه. بل وأشار إلى أن الموساد نفذ سلسلة اغتيالات لعدد من أبرز العلماء النوويين الإيرانيين منذ منتصف يناير 2007، دون أن تعلن إسرائيل ذلك رسمياً. ولكن كما رأينا جميعا في سنة 2018 فقد هدّد نتنياهو باغتيال فخري زاده بعد كشف صورته علناً في المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه سرقة الأرشيف النووي الإيراني، وقال حينها إن فخري زاده محاضر في كلية الفيزياء في جامعة الإمام حسين في طهران، وأنه خبير في الفيزياء النووية. وبعد ذلك فرض مجلس الأمن الدولي عقوبات على زادة باعتبار أنه «العقل المدبر للمشروع النووي العسكري الإيراني». وباختصار فإن الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية ترى أن فخري زاده يعتبر المسؤول العلمي الإداري للمشروع النووي العسكري الإيراني، التابع لوزارة الدفاع الإيرانية وحرس الثورة. أما الصحافة الإسرائيلية فتعرف الرجل جيدا وذلك بحسب تقرير نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» والتي تقول إنه باحث مطلع على معلومات هائلة في الفيزياء النووية والكيمياء الضرورية لبناء قنبلة نووية، ويتمتع بقدرات إدارية مثيرة، ويعتبر مخلصا للثورة الإيرانية وحرس الثورة. وقالت أيضا إن الاستخبارات الأميركية تطلق عليه لقب «عبدالقدير خان الإيراني»، نسبة إلى عبدالقدير خان مصمم المشروع النووي الباكستاني الذي زود إيران بدوائر الطرد المركزية لتخصيب اليورانيوم. وأنه عمل حتى عام 2003 في مناصب بحثية وإدارية عليا، وخاصة في إطار «الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية». وبعد الكشف عن مفاعل التخصيب في نتنز، غيرت إيران الاتجاه وتم منح زاده مركزا مركزيا حيث تم فصل المشروع النووي لأغراض الطاقة عن المشروع العسكري السري. وتم فصل المنشآت النووية المكشوفة، مثل بوشهر ونتنز، التي كانت تحت رقابة دولية وثيقة، وبالتالي واصلت إيران العمل في مسار سري لهدف آخر، وهو تطوير أسلحة نووية... السؤال الأول هنا... على من سترد ايران وكيف؟. الحادثة بما تحمله من أبعادٍ وتداعيات، سوف تشكّل ولاشك نقطةً مفصليّةً في الصراع الحسّاس الذي تعيشه المنطقة وربما العالم حالياً، بين الولاياتالمتحدة الأميركية و"إسرائيل" من جهة وبين إيران من جهةٍ أخرى، والكل يعرف هنا ما يسمى (الصبر الاستراتيجي) وهو "استراتيجية إيرانية معروفة، وهي أن تختبر إيران ردود الفعل الأميركية والإسرائيلية حال أقدمت على عملية ما ضد المصالح الإسرائيلية "ويقول بعض المحللين هنا أنه يمكن أن تؤخر إيران الرد إلى بعد يناير المقبل لترى ما هي مواقف الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن وعلاقته برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بل يرون أن احتمالية وجود توتر لاحق بين نتنياهو وبايدن قد "يمكن إيران من القيام بعمليات ضد إسرائيل، مثل الهجوم على السفارات الإسرائيلية في الخارج أو مهاجمة المصالح الإسرائيلية في الدول الخليجية، أو تسريع حدة الصراع في إسرائيل مع سورية، بحكم وجود مجموعات مسلحة موالية لإيران على مقربة من هضبة الجولان ومن الحدود الإسرائيلية" لكن هذا الكلام مردود عليه نظرا للزيارات المتكررة من قيادات إيرانية إلى العراقولبنان من أجل حث قيادات الفصائل هناك ضبط النفس خلال هذه الفترة. وهناك سيناريو آخر يطرح هنا من بعض المحللين في واشنطن حيث يتوقعون أن تلجأ إيران إلى "القيام بعملية سيبرانية كبيرة ضد إسرائيل" عبر "تجنيد عناصر داخلية في تل أبيب" ومن ذلك ما حصل سابقا مثل التحقيقات التي أجريت مع وزير الطاقة الإسرائيلي السابق غونين سيغيف والذي اتهم في العام الماضي بالتخابر لصالح إيران حيث يرى محللون أن إيران والتي تمكنت من تجنيد وزير في الحكومة الإسرائيلية، قد تتمكن من تجنيد عناصر تقوم بعمليات نوعية داخل إسرائيل من استهداف شخصيات إسرائيلية كبيرة وما إلى ذلك، لكن ولاشك أن تغير الإدارة الأميركية يؤثر بدوره على الرد الإيراني، حيث إن طهران تنتظر "صعود الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن إلى الرئاسة الأميركية، والخطوات التي سيتخذها على الرغم من تأييد بايدن لعملية اغتيال (قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني) قاسم سليماني لكن يرى أولئك المحللون أنه من المتوقع أن تكون سياساته الجديدة محفزة لإيران لانتهاج مسار دبلوماسي فالرئيس بايدن يريد العودة سريعا إلى الاتفاق النووي، ويريد أن يسرع من إبعاد إيران نوعا ما عن امتلاك قنبلة نووية كبيرة". النظام الإيراني يمضي بتحدي العالم في تطوير برنامجه النووي المُعلن حتى وإن تضور شعب إيران جوعاً جراء ما ترصده من أموال طائلة لميليشياتها بينما شعبها يرزح 75 % منه تحت خط الفقر بسبب أطماعها في المنطقة، فهي لا تُخفي أبداً أطماعها البغيضة وتتبجح علناً بنجاحها في نشر الفوضى والدمار في الدول العربية وباحتلال عواصم عربية! كل هذا وهي لم تُكمل مشروع الشر النووي الذي ما تلبث أن تهدد به جيرانها على الخليج العربي، وآخر تلك التهديدات الرسمية جاء على لسان الجنرال "سعيد قاسمي"، قائد ما يسمى ب"ميليشيات أنصار الله" الإيرانية، خلال منتدى في مدينة "بوشهر" الإيرانية معقل مفاعل "بوشهر" النووي، حين طالب فيه باحتلال البحرين وضمها إلى إيران. والآن يرد السؤال المحوري: «هل ستقدم إيران على رد مزلزل كما تتوعد، انتقاماً لاغتيال محسن فخري زاده، الأب الروحي لبرنامجها النووي، أم أنها ستلعق جراحاتها الثخينة مرة ثانية، كما فعلت بعد مقتل قاسم سليماني، بهدف فتح دروب خلفية مع إدارة بايدن القادمة؟ الرئيس الأميركي المنتخَب قال لصحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية أن فكرة إيران نووية غير مقبولة بالمرة، بسبب تهديدها للأمن القومي الأميركي والعالمي على حد سواء. تصريحات بايدن تواجهها (سخونة الرأس) في إيران حيث إنه بعد اغتيال زاده مباشرة أصدر قانون لوقف التفتيش النووي أقره 251 نائباً من أصل 290. ويمنح الدول الأوروبية ثلاثة أشهر لتخفيف العقوبات على قطاع النفط والغاز في إيران، والسماح لها بالوصول إلى النظام المصرفي العالمي، وهذا المشروع وإن وجد معارضة عند المرشد ومن حوله يظهر رغبة جامحة في رد موجع للغرب تمثل أيضاً في زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم لتصل إلى 20 في المئة، واستخدام أجهزة طرد مركزي جديدة وأكثر فاعلية، ومن إنتاج الإيرانيين أنفسهم، لتسريع حصول إيران على المادة الخام لقنبلتها النووية، وكلها حسب رأيي ردود عنترية لا تفيد. انتقام مستحيل التصريحات الإيرانية عن أن الانتقام الضروري أمر لا بد منه هو ما يتنطح به التي الإيرانيون هذه الساعات، وهنا تطفو على السطح عدة خيارات نتائجها الكارثية على إيران والإيرانيين تبقى واحدة. فهل ستصمت إيران عن الرد حيث تبدو بعض الأصوات المعتدلة في الخارجية الإيرانية تميل إلى التهدئة المؤقتة؟، أو تأجيل الرد إلى فترة زمنية تقوم فيها بجس نبض ساكن البيت الأبيض الجديد بصورة رسمية، لا من خلال تصريحاته في الفترة الانتقالية؟.... أم أن إيران ستوجه صواريخها الباليستية بشكل مباشر تجاه إسرائيل، ولهذا جرت قبل أيام اجتماعات عالية المستوى بين ضباط في هيئة الأركان الأميركية ونظراء إسرائيليين، تحسباً لهذا الاحتمال، وللاستعانة بالقدرات الأميركية في رصد أي أجسام منطلقة تجاه المدن الإسرائيلية.؟ أم سيكون هناك استخدام وكلاء الحرب، من «حزب الله»، والحوثيين، و«حماس»، وميليشيات الحشد، في استهداف أميركيين أو إسرائيليين في المنطقة، والثأر لفخري زاده بطريق مباشر؟.. أم سيكون هناك اغتيال شخصيات إسرائيلية أو أميركية في أي مكان حول العالم، وليس سرّاً أن طهران قد أعدت برامج استخبارات سرية، يقودها رجال «الحرس الثوري» الإيراني وغالباً ما يكون هؤلاء متنكرين في صورة دبلوماسيين، كما حدث في فرنسا منذ نحو عامين، حين أراد بعضهم تفجير تجمع للمعارضة الإيرانية في قلب باريس؟.. وقد أجبت عن فشل كل هذه الاحتمالات فيما سبق من أسطر...يبقى السؤال: ما هي تكاليف الرد، وما أثمان العجز في الداخل الإيراني؟. كل من في إيران هذه الأيام يقول إن الكرامة الوطنية للملالي مجروحة بصورة كاملة.. ولهذا فإن التخاذل عن الانتقام سوف يظهر القيادة في أعين المواطنين الإيرانيين في صورة الخائفة والمرتعشة يداها وأيضا فعلى الجانب المقابل، فإن إيران تعرف أن أبواب الجحيم سوف تنفتح من كل الجهات حال أي تهور يقدم عليه الحرس الثوري وملحقاته.. إنه الفشل الكامل وسببه أنه استفحل التغول الإيراني في الشرق الأوسط، وفاقمت طهران من اعتمادها على الميليشيات المذهبية لتوسعة رقعة الدمار في سورية والعراق واليمن. ووجد بين النخبة الإيرانية، التي يفترض أن للدبلوماسية دوراً في تهميشها وخفض صوتها، من تبجح باحتلال أربع عواصم عربية، وأن حدود الإمبراطورية الإيرانية هي شواطئ المتوسط من جهة لبنان.. ويوم اغتيال سليماني فان إيران لم ترد على مقتل سليماني بأكثر من رد مسرحي في العراق، بل كانت من الرعب والارتباك والتوتر إلى حدّ أن جنودها أسقطوا طائرة مدنية أوكرانية عن طريق الخطأ، ثم حاولوا التستر على الجريمة قبل الإقرار بها بشكل مهين. كما أن معظم التعليقات الإيرانية الرسمية وشبه الرسمية بعد اغتيال فخري زاده تنطوي على ما يكفي من الإشارات بأن الوقت المناسب للرد سيطول كثيراً. في خلاصة... أتذكر المثل المعروف (يداكا اوكتا...وفوك نفخ)...فما تدفعه إيران اليوم هو ما زرعته في سابق الأيام، وكذلك يدرك ملالي إيران وعسكرها أن القيام بأي مغامرة عسكرية حتى ولو كانت محدودة لن يحقق لها الكثير، ولن يرفع العقوبات الأميركية، ولن يصلح من أوضاعها الاقتصادية. والمؤكد أنه سيفسد علاقاتها المنتظرة مع الرئيس بايدن... بل لن يكون أمامها سوى الجحيم والنيران التي ستقضي على النظام الإيراني في وقت قريب جدا.