النقد الثقافي حي يرزق، ولكنه لم يعد نقد مجهول الهوية كما جاء في مقالي السابق، فأنا أستطيع القول بملء الثقة أنه نقد أنتجه علم الاجتماع، وهو أداة من أدواته، وابن شرعي تاه من أسرته، وعاد إلى كنفها. وأستطيع القول إنني أول من قال بهذا الأمر، وأول من أصدر كتابا عن علم اجتماع الأدب لكاتب سعودي، وهذا مقرون بهذا فقد حاولت أن يكون ما أكتبه يأتي وفق آليه تسلسلية يكمل بعضها بعض، وأود التأكيد أن كوني أنسب لنفسي هذه الأولوية لا يعني ميزة تميزني أو تجعلني في مقام أعلى من غيري فإنما أنا متعلم وتلميذ يحاول أن يبني معرفة رصينة مما تعلمه من أساتذة أعلام يقف في مقدمتهم المفكرون السعوديون الأستاذ الدكتور عبدالله الغذامي، والأستاذ الدكتور سعد البازعي، والأستاذ الدكتور محمد السيف، والأستاذ الدكتور خالد الشريدة، والأستاذ الدكتور صالح الخضيري، ومن السودان الأستاذ الدكتور أمين السر كرار خلال دراستي الماجستير في جامعة الملك سعود، والدكتور خالد الرديعان. بالإضافة إلى القراءة الموسعة في نظرية المعرفة وطرق تشكل الأفكار وأساسها الفلسفي والأسس المتنوعة في بنائها وعلمائها من الشرق والغرب وتوقفت مطولا عند النظرية المعرفية لكارل مانهايم وفرنسيس بيكون وجون لوك وليبنتس وكانت، مرورا بالشك العلمي الديكرتي والذي نجد له أسس سابقة لديكرت أهمها ما جاء في كتاب الله الحكيم ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)[ البقرة: 260]. وأمر آخر في غاية الأهمية يتمثل في رغبتي أن يخطئني من يرى خطأ ما طرحت، وأن يصحح أو يؤكد من يرى وجوب التصحيح أو الاتفاق مع ما طرحته. وأشير إلى أنني قد كتبت إطار عام لنظرية في علم الاجتماع أسميتها «نظرية الإطار الشفاف» ووثقتها في الجهة الرسمية المعنية قبل حوالي الثلاث سنوات من الآن، ووسمتها بهذا الوسم لتكون نظرية مرنة مفتوحة الاتجاهات أستطيع أن أضع ضمن قواعدها رؤى اجتهادية في عدة مجالات مرتبطة بفروع علم الاجتماع المتعددة والمنفتحة على كافة المعارف والعلوم. ما دعاني إلى كتابة ما كتبته من جهة أخرى؛ هو الرغبة في أن يكون ما أكتبه وفق أسلوب منهجي ورؤية واضحة المرتكز والتوجه خصوصا إننا وصلنا في هذه المرحلة إلى محطة ثقافية تجعلنا منتجين للثقافة ولسنا مجرد مستهلكين لها. نقص ونلصق مقولات العلماء، ونشير إلى كتبهم دون أن يكون لنا كلمه ورأي وتصور ونظرية تخصنا وتنبع من ذواتنا وثقافتنا وتتكامل مع ما ينتجه العالم من حولنا ولا تتعارض مع قواعدنا الثقافية المحلية ولا مع مسلمات العلم وقواعد الوجود وصيرورة الأفكار. وفي هذا الإطار كتبت قبل قرابة الثمانية أشهر في زاويتي في جريدة الرياض المعنونة ب»بين الثقافة والصحافة» والتي أدين بالفضل بعد فضل الله على ظهورها -لجريدة الرياض ولمدير تحرير الشؤون الثقافية فيها الأستاذ عبدالله الحسني- مقال تحت عنوان «موت النقد الثقافي» وبالتحديد في عدد يوم السبت 18 جمادى الأولى 1445ه 2 ديسمبر 2023م. في هذا المقال مهدت لتمدد معرفي وفق اجتهادي وفهمي المتصل بالقراءة والتدقيق والتحليل، ومن ثم ارتأيت أن الوقت مناسب لهذا الطرح المتبني لفكرة أن علم الاجتماع هو العلم المنتج للنقد الثقافي، وكان بين هذا المقال والمقال السابق، مقال تحت عنوان «د. عبدالله الغذامي وعلم الاجتماع» في عدد يوم السبت 20 رمضان 1445ه 30 مارس 2024م ألمحت فيه إلى درجة التمكن العالية التي يتمتع بها الدكتور الغذامي في مجالات علم الاجتماع وأساليبه من خلال تحليلي لما كتبه. وأقصد أن المقالات الثلاث جاءت في سياق مرتبط بخيط سردي واحد، والخيط السردي هنا يربط ويرتبط بالفكرة، ويسير بها بين محطات منفصلة ولكنها متصلة بتصور واحد، فجاءت بالتسلسل التالي: المقال الأول أثار الفكرة وهو المعنون ب»موت النقد الثقافي»، والمقال الثاني ربط المقال الأول -في خطة الكتابة التي تبنيتها- بالشخصية المحورية الأولى في الوطن العربي التي تمثل الحراك الحيوي حول النقد الثقافي وهو الأستاذ الدكتور المفكر السعودي عبدالله الغذامي، وربط المقال الدكتور الغذامي وطرحه العميق المبني على تمكنه من الأطر العامة لعلم الاجتماع، وقوة طرحه الأدبية والفكرية والثقافية، والمقال جاء تحت عنوان «د. عبدالله الغذامي وعلم الاجتماع»، ومن ثم جاء المقال الحالي ليطرح الفكرة متصلة وصريحة حول علاقة النقد الثقافي بعلم الاجتماع. تنسيب النقد الثقافي إلى علم الاجتماع التي أتبناها بشكل صريح من خلال هذا المقال ليست فكرة مجردة بل هي فكرة مرتبطة بالمنهج، ووضوح النظرية، وهي ليست نظرية واحدة يتوجه إليها الكاتب دون تحليل عميق وفحص للمادة الأدبية أو الفنية وغيرها، فالنظرية هنا إشارة إلى نوع وليس إلى عدد، وهذا يعني اكتمال المنهجية التي يحتاج النقد الثقافي أن يندرج ضمن إطارها، لتكون حركته النقدية واضحة، وهو بذلك يصبح نقدا مكتمل الجوانب يمكن أن يطبق على جميع منتجات الهيئات الأحد عشر لوزارة الثقافة، والتي أرى أنها الأحق بتبني هذه الأفكار والمجادلة العلمية حولها، وإن ثبتت صحة هذه المنهجية، فهي لن تكون منهجية مرتبطة باسم فرد بل ستكون مرتبطة بنتاج وطني ثقافي، فالأفكار والنظريات والمناهج، والمنهجية مُنتج تتحرك الثقافة في إطاره، وتسجل حضورها في المشهد الثقافي الحضاري العالمي من خلاله، وإنتاج منهجية تضم منهج ونظرية ثقافية أو بلورتها وفق تصور ومنظور واضح يعني أننا منحنا الثقافة بعض مما تكون لدينا من تراكم معرفي، وبناء علمي عملت عليه مؤسساتنا الثقافية، والتعليمية، ونماه فينا رغبة راسخة في أنفسنا أن نكون أدوات بناء فاعل في مجتمعنا من أجل وطننا. د. عبدالله بن محمد العمري