حين أردنا الاحتفاء بالناقد الكبير الأستاذ الدكتور عبدالله الغذامي بمناسبة بلوغه السبعين ربيعاً (أبصر النور عام 1365ه) مع كوكبة من مشاهير النقد الأدبي في عالمنا العربي، حِرْت في أمري، وكيف لي أن أقدمه للقارئ الكريم؟ وهو صاحب الحضور الطاغي في الساحة النقدية قرابة أربعة عقود يصول ويجول بأفكار وآرائه فعرفه المتلقي من الأزرق إلى الأزرق من خلال مصنفاته المتنوعة وأبحاثه العديدة وسجالاته الدائمة. أم أكتفي بالقول إنه عبدالله الغذامي وكفى؟ إنني في غاية الحرج أن أتحدث عن عبدالله الغذامي الناقد والباحث والمفكر والأكاديمي الذي تخرج على يديه آلاف الطلاب في الجامعة، ونافت مؤلفاته عن العشرين مؤلفاً ودبج أكثر من (80) بحثاً ومحاضرة وكُتِب عنه ثلاثة كتب راصدة دوره التنويري في عالم النقد، إلى جانب قرابة (600) مقالة وبحث كان من بينهم أساطين النقد والإبداع أمثال: محمود أمين العالم ومنذر العياشي وسعيد علوش وسهيل إدريس وغازي القصيبي وعبدالعزيز المقالح وعبدالملك مرتاض وعبدالله إبراهيم ونذير العظمة وعبدالسلام المسدي، ومحيي الدين محسب، وغيرهم من سدنة النقد والإبداع، ناهيك عن عضويته في أكثر من (13) هيئة استشارية لمجلات نقدية وجوائز ثقافية، كما أنه نال ثلاث جوائز من مؤسسات ثقافية مهمة، كان أولها جائزة مكتب التربية العربي لدول الخليج عام (1985م)، وثنى بجائزة مؤسسة عويس الثقافية عام (1999م)، وثَلَثَ بجائزة مؤسسة الفكر العربي عام (2002م). ماذا أقول عن ناقد بصير حذق علم النقد وأضحى إماماً فيه، إذا كتب كان متين الحجة حاضر الدليل محيطاً بحركة النقد مستقصياً لغرائبه ونوادره، مع غزارة في الكتابة وحُسْن في المنحى وإشراق في الدلالة، وإذا خطب في جَمْع من المثقفين أو حاضر تجده منقح العبارة محكم السبك رائع الاستدلال بشواهد المعقول والمنقول تبهرك أفكاره فتدار نحوه الأعناق. عبدالله الغذامي يجاهر بأفكاره وبكل ما يعتقده ويؤمن به لذلك كان نَقَّاد بصير، دقيق النظر كثير التنقيب في النصوص قديمها وحديثها، ما جعله محاط بتلامذته ومريديه وهم كثر وفي الجانب الآخر كان له خصوم ومعارضون، ولا ريب أن هذا سر شخصيته وبقائه على قمة الهرم النقدي، فكلما خط مقالاً أو أصدر كتاباً، أو صدع برأي، رأيت الناس من حوله يتناولونه ويقلبون فيه النظر بين معجب وساخط، وهذا ديدن الكبار أفلم يُخْتَلف على المتنبي وشوقي وطه حسين؟ لكنهم ظلوا في ذاكرة الثقافة العربية شئنا أم أبينا وكذلك الدكتور الغذامي مازال مشعلاً مضيئاً في حركة النقد الأدبي في الوطن العربي ومنارة يهتدي بها طلاب النقد وعشاق المعرفة. لذلك ارتأينا أن نحتفي بهذا المنجز النقدي الفكري (عبدالله الغذامي) وهو يرفل في عامة السبعين بين عشاقه وطلابه ومناوئيه أيضاً، وما كان لنا إلا أن ندعو له بحياة سعيدة متمتعاً بصحته وعقليته الفذة وقد شاركنا في هذا المهرجان من الحب عبر(الرياض) أبرز الأصوات النقدية ذات الحضور الكبير من المملكة ومصر والأردن وتونس واليمن والكويت، وهم من أبْصَر النقاد بمشروع الغذامي النقدي والفكري ومنهم من عرفه منذ سنوات طويلة وتابع تحولاته وآرائه ورصد هذه التجربة وقيّمها بالنقد والحب.. فإلى هذه الكتابات الحميمة. د. يوسف بكار بكّار: قامة علمية شامخة برياداته النقدية وتواليفه العلمية وإسهاماته الثقافية في مطلع هذا الاحتفاء يبرز الناقد الكبير والمحقق العروف الدكتور يوسف بكار ليقدم للقارئ علاقته القديمة والوطيدة مع الدكتور الغذامي قبل أكثر من ثلاثين عاماً، اجتمعا في أكثر من ملتقى وقرأ عدداً من أعماله وتوقف عند بعضها وهو يقول هنا: فقد سرّني أن يتّصل بي هاتفيًّا الصّديق العزيز محمد باوزير يدعوني للمشاركة في الكتابة عن صديقي الأستاذ الدكتور عبدالله الغذّامي بمناسبة مشارفته السّبعين، مدّ الله في عمره سالمًا معافى، لأُسجّل له بعض ما هو أهله من محبّة وودٍّ وتكريم، وتقدير واعتزاز بعلمه وجهوده الجادّة في الكتابة عمّا قد لا يقدر عليه آخرون، وفي صبره ومعاناته وتحمّله بِقوّة وشهامة وشجاعة ما كان، وما زال، يهبّ عليه من هنا وهناك وهنالك من رياح "الجَنوب" و"الشّمال" و"السّموم"، وإن لم يخلُ الهبوب من رياح "الصّبا"، مذ وضع أصابعه في مواقد النّار وغشي ساح الدراسات النقديّة الحديثة دون قطيعة معرفيّة مع موروثنا أو صدود عنه. فهو ذو اطلاع واسع عليه ودراية بكثير من أصوله ودقائقه، وممن يرعونه ويحدبون عليه ويحافظون؛ وهذا هو أحد أسرار قدرته وصَمْده وتفوقه في ما كتب وألّف. إنّه في رأي كثيرين أنا أحدهم، وهو المتخرّج في جامعة "اكستر" البريطانيّة والحاصل منها على الدكتوراه عام 1978، خير وأسبق من نقل، بتوازن واعتدال، مناهج النقد الحديثة وقرّبها إلى الدّارسين والباحثين وطلبة العلم من خلال تطبيقات ما يتواءم منها مع موروثنا الأدبيّ والنقديّ والبلاغيّ وأدبنا المعاصر والحديث، وإلى الجامعات كانت محافظة متشدّدة. إنّه لحريّ بالتكريم وإيفائه بعض حقّه، بقطع النّظر عن وجوه الائتلاف والاختلاف معه، فذا أمر طبيعي لا مناص منه في ميادين العلم بحثًا ودراسة، وهو من سنن الله تعالى في خلقه التي لا سبيل إلى الخروج عليها؛ والاختلاف الحقيقيّ البعيد عن الهوى رحمة لولاه لما اهتدى العقلاء إلى كثير من الوفاق والاتفاق والرّشاد. ما كان أصدق ما جاء عنه في صحيفة "عكاظ" السّعوديّة (6 ديسمبر / كانون الأوّل 1999): "رجل يضيء خارج الوطن، يدير الأعناق إلى الوطن وإبداع الوطن بحضوره السامق يدُلّ الآخرين على أدبنا وفكرنا وجمالياتنا، ويشدّ الذين يجهلون ما لدينا إلى ما لدينا". لقد كُتب عنه كثير من الدراسات والبحوث والمقالات، وأجريت معه حوارات ولقاءات صحفيّة وإذاعيّة وتلفزيونيّة استطاع، بدقته المعهودة، أن يجمعها كلّها أو جلّها لتنشر في ثلاثة ملاحق في كتاب "الغذّامي الناقد: قراءات في مشروع الغذّامي النّقدي" لمجموعة من الباحثين، حرّره وقدّم له الدكتور عبد الرحمن بن إسماعيل السماعيل"(كتاب الرياض 97 و98 – ديسمبر 2001 - يناير 2002م). لقد آثرت لهذا، وإن لم تخلُ بعض دراساتي في النقد وحواراتي من إشارات إليه، أن أُسطّر هذه الشهادة العلميّة الأمينة من خلال صحبة شخصيّة متقطّعة وعلميّة متّصلة بما يكتب ويصدر من تواليف وأعمال، علّها تعضد ما عرف عنه من سبْق وجدّيّة وإخلاص في العلم، وسموٍّ في الخُلق ورفعة النّفس وعزّتها واستقامتها وصمْدها في وجه العواصف والزّوابع. ويمضي الناقد بكار ليحدد صلته بفارسنا: عرفت عبدالله الغذّامي، أوّل مرّة، عام 1986 ببغداد حيث جمعنا مهرجان المربد السابع، وكنت إذ ذاك في إجازة تفرّغي العلمي الأُولى أُستاذًا بجامعة قطر بالدّوحة، أي بعد عام تقريبًا من صدور كتابه الزوبعة "الخطيئة والتكفير من البنيويّة إلى التشريحيّة: قراءة نقديّة لنموذج إنساني" (النادي الأدبي الثقافي – جُدّة 1985)، الذي لم أكن قد اطلعت عليه. وكان برفقته عدد من أترابه وأقرانه وزملائه من سعوديين وكويتيين خاصة، ممن لم يكن أكثرهم، كما بان لي، على وفاق مع اتجاهه النقدي الجديد لاسيّما "البنيويّة". لقد هشّوا كثيرًا وأثلج صدورهم، وهم يتحلّقون حولنا في بهو الفندق، حين دخلت معه في حوار عام لم يخل من سخونة وحماسة دون حدّة أو انفعال منّا كلينا، عن النقد الجديد وجلجلة البنيويّة التي شاعت، آنذاك، في الوطن العربيّ مغربًا ومشرقًا بعد أن هجرها وعزف عنها منظّروها الأُول، الذين كانوا يركّزون على "أدبيّة الأدب" المنبجسة من "ما الأدب؟" دون اعتناء بمفهوم "لماذا الأدب؟" الذي جعل النّقد، منذ وقت قريب، يُعنى ب "الحدث" أيضًا ويجمع بين "ما الأدب" و"لماذا الأدب" كما تجلّى عند إدوارد سعيد في أن النّص "بنية وحديث" (Structure and Event) في كتابه "العالم والنص والناقد". انطلقت في حواري ذاك من مخزون اطلاعي على المناهج والنظريّات والمفاهيم النقديّة الحديثة وعلى مورثنا النقديّ والبلاغي، الذي كدت أعجم عيدانه في رسالتي "بناء القصيدة في النقد العربيّ القديم – في ضوء النقد الحديث" التي نلت بها درجة الدكتوراه في (5/8/1972) من كلية الآداب بجامعة القاهرة بامتياز مع مرتبة الشّرف الأولى بإشراف أستاذي الجليل الدكتور حسين نصّار، مدّ الله في عمره وأسبغ عليه الصحة والعافية، والتي أعتزّ بأن ناقشني فيها الراحل العلاّمة عبد العزيز الأهواني، والأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد-حفظه الله ورعاه-. وقد طبعت، أوّل مرة، بالقاهرة (دار الثقافة 1979) وجعلت طبعاتها تترى في بيروت. وتبين ليّ كثير من البذور والنّوى الجنينّة والإشارات النقديّة السريعة المقاربة لما هو في النقد الغربي الحديث أو بعضه بعيدًا عن التعسف والتّطويع والإسقاط؛ وهو ما تابعته ولاحقته وخصّصت له كتابي "حفريات في تراثنا النقدي" (دار المناهل – بيروت 2007)، وما أزال أُنقّب وأحفر. وغادرنا بغداد، ومضى كلٌّ إلى وجهته وغايته، وشاء عبدالله، مشكورًا، أن يبعث إليّ، بعد أيام، برسالة مؤرخة في 2/12/1986 مشفوعة بهديّة ثمينة كتابه "الخطيئة والتكفير" ممهورًا بهذا الإهداء "إلى... مع خالص تحيّاتي وتقديري". فأمّا الرّسالة، فقد صاغها بكلمات دقيقة رقيقة عِذاب تنمّ على سلوكه العلمي وخلقه القويم وأبعاده الإنسانيّة الرّحبة. وممّا جاء فيها "لقد كانت سعادتي غامرة بالحوار الذي دار بيننا، واشتعل حتّى أفاد وأثار كلّ كوامن المعرفة". والتقينا عام 1993 بجامعة الحسن الثاني في الدّار البيضاء بالمغرب في ندوة "الأدب القديم: أيّة قراءة" (12-13 فبراير / شباط 1993) التي كان أكثر المشاركين فيها من الأساتذة والباحثين المغاربة من مثل: محمد مفتاح، وإدريس نقوري، وعبد الغني أبو العزم. كان عنوان بحث عبدالله "ذاكرة النّص ذاكرة الرّاوي"، وعنوان بحثي "من قراءات نقّادنا القدماء الجديدة" الذي أضحى أحد مباحث كتابي "حفريات في تراثنا النقدي"، والذي علّق عبدالله على أجزاء منه تعليقًا علميًّا سرّني كثيرًا، أمّا أنا فلم أُعلّق على بحثه. لم يكن لقاء الدّار البيضاء لا ساخنًا ولا حادًّا على شغف إخواننا المغاربة بالجدال والنقاش، بل مرّ دون حوار بيني وبين عبدالله بعد أن عرف كلٌّ منا صاحبه. لقد كان ممتّعًا بما أضفاه عليه عبدالله ومحمد مفتاح من إنسانيّة عاليّة ومداعبات لطيفة، ومناكفات ظريفة لاسيّما حين كنّا، وقد كان عددنا قليلاً، نلتقي في الفندق بعد الفراغ من المحاضرات والمداخلات. أذكر أنّه لمّا حضر مندوب التلفزيون المغربي واختارني ليحاورني عن النّدوة خاصة والمثقفين العرب ودورهم عامة، داعبني عبدالله مناكفًا: لماذا اختاروك أنت؟ فأجبت: ربما لأنهم عرفوا أننّي أكبرك بأربع سنوات، وأنّني من الزّاهدين في مثل هذا. لكنّ عبد الحقّ لبيض أجرى حوارًا مع كلٍّ منا لصحيفة "أنوال" المغربيّة. وفي عام 1995 التقينا في الكويت بدعوة من مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري بمناسبة الاحتفال بإصدار معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين بطبعته الأولى. بيد أن هذا اللقاء كان سريعًا لم تتح لنا فيه فرصه "بحبوحة" ما كان في الدار البيضاء، لكثرة عدد المدعوّين وتوزيعهم على غير فندق. ولم نكن عبدالله وأنا في فندق واحد. ويقف الدكتور بكار بتبصر أمام أحد أعمال الغذامي الهامة فيقول: بعد أن أصدر الغذّامي كتابه "النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربيّة" بطبعته الأولى (المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء- المغرب 2000)، وأثار عاصفة أُخرى، وسالت لعابات كثيرين؛ فمنهم من امتطى سرج الموضوع وشرّق وغرّب وراح يكتب بمستوى أقلّ بكثير مما عند عبدالله، ومنهم من تصدّى للكتاب ومؤلفه بالنقد الذي جاوز في بعضه حدود النقدوالنقد العلميّ إلى مغالطات ومهاترات وصمد أمامها الغذّامي صمْد الجبال التي لاتهزّها الرياح، وظلّ ينافح عن مواقفه المعتقد بصحتّها المطئمن إليها. بعد كلّ هذا، اقترحنا على مؤسسة عبد الحميد شومان الثقافيّة الأردنيّة، وكان مديرها حينئذٍ الأستاذ عزّ الدين إبراهيم، أن تعقد ندوة عن النقد الثقافي يُدعى إليها الأستاذ الدكتور عبدالله الغذّامي ويكون المتحدث الرئيسي فيها؛ وهكذا كان. عقدت الندوة يوم الأربعاء (30/10/2001)، وكان عنوان محاضرة الغذّامي "النقد الثقافي: رؤية في نقد النّسق ونقد الذّات". وقد أدرت أنا نفسي الندوة، وقدّمت صديقي بمقدمة هو بها قمين لا تخلو شهادتي هذه من أجزاء منها. وذكّر قبل أن يشرع في المحاضرة، بتواضعه الجمّ وصدقه وأمانته الحضور بلقائنا الأول، فقال، بعد حمد الله والصّلاة على رسوله (ص): "وقبل أن (أدخل في الجدّ) – أي موضوع المحاضرة – أود أن أبوح لكم بأن الأستاذ الدكتور يوسف بكّار صديق عزيز. ولا أظنّ شهادة الأصدقاء يجب أن تؤخذ بحذافيرها؛ فمعظم ما قال عنّي لا ينطبق عليّ! هذه مسألة لا بدّ من تأكيدها، ولست أظنّ نفسي على هذه الصورة التي نقلها لكم؛ ولكننّي أشكر الصديق الذي بدأ خصمًا عنيدًا، وكما قال فقد كان بيننا حوار ساخن، بل مشادة ومصارعة فرح لها وطرب كلّ من كان جالسًا لأنّه شهد أُستاذين جامعيين يفتك أحدهما بالآخر، وظننت أنّني قابلت عدوًّا أزليًّا فإذا به يتحوّل إلى صديق أزلي، صديق عمر. وكمثل ما كان بيننا من صخب صار بيننا مرح ومودّة ومحبّة، وشهادة اليوم تدلّ على هذه المودّة". ثم دخل في (الجد)، وبعد أن فرغ من محاضرته القيّمة، التي اهتمت بها الصحف الأردنيّة من بعد، قلت: الشكر أجزله وأوفره للأستاذ الدكتور عبدالله الغذّامي على هذه الرؤية الموجزة المكثّفة للنقد الثقافيّ المفصّل الكلام عليه في آخر كتبه -حتّى الآن- "النقد الثقافي"، وهو مشروع متجدّد لا ينكر صاحبه إفادته، في أصله، من عدد من الكُتّاب الغربيين -وإن لم يستوفهم- مضيفًا ما هداه اجتهاده وقراءاته وجهازه المعرفيّ وإجراءاته النقديّة سواء الجديد منها أو تلك الإرهاصات التي تتبدّى، بين الحين والحين، في تواليفه السابقة. إنّه يركّز في النقد الثقافي، من خلال نماذج عربيّة قديمة وحديثة، على ما يسمّيه "قبحيّات" الخطاب العربيّ بعد أن كادت أعماله الأولى تستغرق البحث في "جماليّاته" في نقده النصوصي والألسني بضروبه كافة. الدكتور الغذّامي ناقد جدليّ في كلّ ما كتب. كتب عنه كثيرون موافقين ومخالفين ومحاورين، لأنّه ظاهرة نقديّة جديرة بالاهتمام والملاحقة والمناكفة ائتلافًا واختلافًا. ولقد أثار كتابه الأخير ورؤيته للنقد الثقافي جدلاً طويلاً لمّا يتوقّف. فما عسى أن يقول الصديقان الناقدان الأستاذ الدكتور شكري الماضي والدكتور إبراهيم خليل؟". هذان الناقدان هما اللّذان شاركا في الندوة بمداخلتين نقديتين علميتين مثيرتين عقّب عليهما الدكتور الغذّامي فشكرهما بما هو معروف عنه من دماثة وأمانة، وقال عن الأول "كان أمينًا جدًّا وصادقًا على المستوى المنهجي والعلمي.. لقد أورد أقوالاً كثيرة -من كتابه- وضّحت بعض أفكاري" وجعل يجيب عن تساؤلاته واحدًا واحدًا بأدلّة وافية شافيّة. وردّ على الآخِر فوافقه على بعض ملاحظاته، وظلّ على رأيه في إشكالات قراءة الشعر لا النثر. وقد نُشرت المحاضرة والمداخلتان وجلّ التقديم في كتاب "المشروع الحضاريّ العربي بين التراث والحداثة" بمراجعة الدكتور فهمي جدعان وتقديمه، وتحرير الدكتور غسّان إسماعيل عبد الخالق (مؤسسة شومان-عمّان والمؤسسة العربيّة للدراسات والنشر-بيروت 2002). ويختم الأديب والناقد الدكتور يوسف بكار حديثه الماتع عن الغذامي قائلاً: الغذّامي قامة علميّة شامخة برياداته النقديّة وتواليفه العلميّة، وإسهاماته في صياغة بعض المشروعات العلميّة والثقافيّة في جامعة الملك عبدالعزيز بجدّة وخارجها كالمشروع الثقافي لنادي جدّة الأدبيّ ومجلته المعروفة "علامات في النقد"، ونشاطاته المحليّة والعربيّة والعالميّة من ندوات ومحاضرات ومؤتمرات وزيارات علميّة بحثيّة لبعض الجامعات الأمريكيّة من مثل "بيركلي" و"انديانا"، والتدريس بجامعتي الملك عبد العزيز والملك سعود، وتخريج جيل من الباحثين الذين يحمل بعضهم -الآن-رايته في النقد والبحث. ليس بكثير، إذاً، على هذا الصديق الصدوق تكريمه بنيل جائزة مكتب التربيّة العربيّ بدول الخليج في العلوم الإنسانيّة (1985)، وجائزة سلطان العويس(1999)، وأن يُحتفى به بين الحين والحين، فهو جدير دائمًا بالاحتفاء والتكريم، والحصول على جوائز أُخرى نالها من هم لا يقفون عند كتفيه كما قال برناردشو عن نفسه بالنسبة لشكسبير! د. أحمد درويش درويش: الغذامي ملأ الدنيا وشغل الناس عقوداً متتالية وأثار ردود أفعال مخالفة أو موافقة أما الناقد المعروف والمترجم الدكتور أحمد درويش فإن له موقفاً من فكرة (السبعيني) ويسرد علينا بعض مواقفها وهو لا يريد أن يقحم الدكتور الغذامي في عالمها كونه مازال متدفقاً حيوية وعلماً إذ يقول عنه: حين حدثني الصديق الأديب محمد باوزير من تنظيم تكريم صحفي للناقد الأدبي الكبير الدكتور عبدالله الغذامي، بمناسبة بلوغه السبعين، ودعوته لي للمشاركة، لم أتردد في قبول دعوته، تقديراً للنتاج الحافل لذلك الرجل الذي "ملأ الدنيا وشغل الناس" عقوداً متتالية، وأثار من ردود الأفعال مخالفة أو موافقة، ما يكفي لفتح صفحة من صفحات ثقافة عربية معاصر نتفق جميعاً على أنها في حاجة لمزيد من "ثقافة الأسئلة" وهو التعبير الذي جسد به عبدالله الغذامي نفسه مشكلة رئيسية من مشاكلنا الثقافية الواقعة بين أزمة اجترار القديم الذي نختلف كثيراً من مطلب الأصالة والتمحيص والانتقاء والتجذير، وأزمة "اجترار الحديث" وترديد كثير من مقولاته دون حاجة حقيقية، أو تدبر عميق، أو توظيف صحيح. لكن مسألة الاحتفال بالسبعيني ذكرتني بظاهرة تكريمية، شاعت في العقيدين الأخيرين في مصر، عندما بلغ بعض الأدباء والشعراء هذه السن مثل: أحمد عبدالمعطي حجازي، وفاروق شوشة، ومحمد إبراهيم أبوسنة وغيرهم، فاحتفى بهم الوسط الأدبي تحت عنوان: "فحولة السبعين" وهو عنوان كأنه ينأى بهم عن مظنة "وهن السبعين" التي تقترن بالرقم ذاته، ولاشك أن ذلك كفيل بأن يشيع السرور في نفس المحتفى به، خاصة مع تداعيات مصطلح "الفحولة" الذي لم يبخل به ابن سلام على كبار الشعراء، ولم تتركه اللغة خالياً من إيحاءات جانبية تشبع السرور في النفس، وتجعل من لم يحظ بشرف الانتماء إليه حاسداً ومن حظي به محسوداً. وأذكر أنني في موجة الاحتفالات بهذه "الفحولة السبعينية"، وقد جاءت متتالية، وكنت وقتها مسؤولاً عن لجنة الدراسات الأدبية بالمجلس الأعلى للثقافة في مصر، جاءني أحد الشعراء الكبار عمراً وغزارة انتاج، - وشكا إليّ –أنه لم تسند إليه "الفحولة" في غمار هذه الاحتفالات، ويعقد له تكريم خاص بفحولته، وقلت له مسترضياً: أين هؤلاء منك؟! وأنت على مشارف التسعين، وهم ما يزالون "شُداة" في السعبين!! وسكت الشاعر وإن كنت أشك في أنه قد اقتنع أو رضي. ويصل الناقد درويش إلى المحتفى به فيقول:- الغذامي إذاً في "فحولة السعبين" ويستحق الاحتفاء به وتكريمه، ولكنني شككت في مسألة "السبعين" هذه وعندما راجعت تاريخ ميلاده، وجدته قد ولد-أطال الله بقاءه- في منتصف الشهر الثاني من عام (1946) بالتقويم الميلادي الذي اعتاد عليه تاريخ الأدب العربي الحديث، منذ أن عرف برفاعة طهطاوي (1801 - 1873) ومعنى ذلك أن الرجل ما يزال في ريعان الستينات، ولم يصل بعد إلى فحولة السبعينات، وقد يتردد أصحاب "نادي السبعين" ممن ولدوا سنة (1943م) مثلي، أو سنة (1944م) مثل الدكتور جابر عصفور أن يقبلوه عضواً بالنادي، إلا من باب (الانتساب) أو أن يراعوا أن التقويم الهجري قد أضاف إلى عمره سنوات عامين على الأقل حين قيده في منتصف الشهر الثالث عام (1365ه) فزاده وقاراً على وقار، وعلماً على علم. ويحتار ناقدنا درويش أي المصنفات يقف عندها فيقول: حين سألت نفسي إلى أي مؤلفات الرجل أسير وهي كثيرة ومثيرة انطلاقاً من "الخطيئة والتكفير"، إلى "تشريح النص" إلى "الكتابة ضد الكتابة" إلى "ثقافة الأسئلة"، إلى "المرأة واللغة"، إلى "تأنيث القصيدة" إلى غيرها من المؤلفات والآراء، التي هي كفيلة بأن تُثير كثيراً من أوجه الاتفاق والاختلاف وهما مصدران لتحقيق المتعة والفائدة؟ وفي الإجابة كان سؤال الحيز المتاح للمشاركة وهو لا يتجاوز صفحتين أو ثلاثاً، يدفع إلى الاكتفاء بالرمز والإيحاء، عوضاً عن التفضيل والتوضيح، وتذكرت أن المبادئ التي استراح إليها الغذامي في منهج "تشريح النص" الذي تبناه في كثير من مؤلفاته، أن خصائص الجسد الكامل قد تُستدل عليها في خلية واحدة من خلاياه، وأن ذلك المبدأ نفسه هو الذي تبناه الناقد الفرنسي الكبير جون كوين الذي سعدت بأن ترجمت كتابيه الرئيسين "بناء لغة الشعر" و"النظرية العليا" عندما قال: إنه يستطيع أن يهتدي إلى كل خصائص لغة الشعر الفرنسي -على الأقل-من تحليل قصيدة واحدة لما لا رميه. تذكرت هنا أن آخر ما قرأته للدكتور عبدالله الغذامي، كان مقدمة قصيرة صدّر بها كتاباً عن "الأدب التفاعلي" لفاطمة البريكي، والمقدمة على قصرها أبانت عن هموم ناقد كبير، لا ينبهر بالتفاصيل المدنية، ويدخل في غمارها فيقع تحت سنابكها أو تطويه أمواجها، كما يفعل كثير من الكتبة أو الكاتبين الذي يرفعون رايات التجديد ثم لا يصدر عنها إلا ترديد لأصداء وشعارات المذاهب وأسماء أعلامها، دون أن يصدر منها مس حقيقي لجسد اللغة التي يعالجون نصوصها، ووعي القارئ الذي يتلقاها. ويمضي الدكتور أحمد درويش في تحليله لهذه المقدمة: كان السؤال الشامل الذي طرحه الغذامي في مقدمة كتاب يعالج الكتابة الإلكترونية والنص المتفرع والهايبرتكس وغيرها من وسائل انتاج النص الحديث، كان السؤال، حول إمكانية تعديل الأنساق الثقافية، انطلاقاً من تطوير وسائل إنتاجها، وهو سؤال عميق، ينصرف إلى فهمنا وتقديرنا لقيمة النص إرسالاً أو استقبالاً، انطلاقاً من وسيلة كتابية أو تلقيه، هل تختلف قيمة النص الذي كتب بقلم البوص المنعمس في المحبرة، أو قلم الرصاص، أو قلم الحبر الأنيق الذهبي، عن النص الذي كتب بلمسة الأصابع على أزرار الطابعة لمجرد اختلاف وسيلة البث؟ ومثله في الوجه الآخر، اختلاف قيمة التلقي عبر المخطوط القديم أو الكتاب الحديث أو شاشة الحاسوب؟ وكان دي سوسير قد تنبه من قبل، إلى أن القيمة الفعلية لقطع الشطرنج على مربع اللعبة لا تختلف، فاعليتها، تبعاً لاختلاف المادة التي صنعت منها وما إذا كانت من ذهب أو فضة أو أبنوس أو خشب رديء، وفي نفس الإطار، يشير الغذامي إلى أن الذين ينبهرون بالنص المنفرع الجديد -وهو غير مرفوض- ربما يكون عليهم وهم يتابعون تعرجاته، أن يتذكروا أن ثقافة المتون والشروح والحواشي والتقارير في كتبنا القديمة، كانت تنطلق من نفس المبدأ، وأن متابعة تعرجاتها أيضاً يمكن أن تحمل للقارئ المتبصر كثيراً من الفائدة والمتعة، وأن نصوصاً كثيرة في ألف ليلة وليلة وغيرها من كتب القصص تستحق متابعة من زوايا مماثلة، وأن لعبة الشعر التشكيلي والبصري في التراث العربي قد تحتاج إلى إعادة قراءة لقيمها الجمالية، في ضوء انبهارنا بتطوير وسائل البث الإلكتروني. إن أسئلة كهذه في مقدمة موجزة يطرحها ناقد كالغذامي وهو يقدم لكتاب عن "الأدب التفاعلي" تدل على خاصية الخلية ذات النظرة الشاملة التي تكون فيها – الجسد الناقد – في رحلته الثرية نحو "فحولة السبعيني" التي بلغها بالتقويم الهجري، أو يتطلع لبلوغها بالتقويم الميلادي، زاده الله عمراً وثراءً وإثراءً. د. نور الدين صمود صمّود: الصوت النقدي الأول الذي بلغنا من بين مجايليه فكان رجلاً بجيل ويأتي من تونس صوت الناقد الكبير الدكتور حمادي صمود مشاركاً في هذا الاحتفاء ومحللاً منهج الدكتور عبدالله الغذامي وموضحاً أصول ثقافته ومتى تعرف عليها إذ يقول: ينتمي عبدالله الغذامي إلى طليعة جيل النقاد والمفكرين العرب الذين سعوا بما توفر لهم من معرفة بالعصور الحديثة بما يبنيها من تيارات فكرية ونزعات فلسفية وثورة منهجية في تناول الظواهر وتحليلها والخروج عن هيمنة أبنية تمثيلية ونضوريه وعوالم اعتقاد لم تعد قادرة على الثبات أمام امتحان الأسئلة الكبرى التي أحرجت الميتافيزيقا المنحدرة من العصور الكلاسيكية وأبانت عن عجزها عن الاستجابة لمتطلبات الأفق الذي بنته الحداثة لنفسها، سعوا أن يضعوا ثقافتهم وما انتهى إليهم من تاريخ فكرهم وأدبهم أمام امتحان الحداثة ومحنتها بتهيئة الأسباب ليتم ذلك بما يقتضيه الكون في العصر من تبنِ لشروطه المعرفية ومنظومات قيمه الإنسانية. كان الغذامي في الصف الأول من تلك الكوكبة التي بدأ صوتها يعلو ويمتد في أواسط السبعينات وبلغ أوجه في نهاية التسعينات، وكان هو الصوت الصادح الأول الذي بلغ من جزيرة العرب مجايليه في الأقطار العربية الأخرى، فكان رجلاً بجيل قبل أن يلتحق به رفقة من خيرة المثقفين الذين نعتز بصحبتهم ونصون أخوتهم. ويمضي صمود في حديثه عن المحتفى به ليقول: عرفت عبدالله الغذامي أول ما عرفته في بغداد في أول دورة من دورات جائرة صدام للآداب وكنا في لجنة التحكيم مع أساتذة كبار وإخوان أعزاء، أذكر منهم الدكاترة عزالدين إسماعيل، وأحمد عبدالله المهنا، وتوفيق غياض، وإدريس الناقوري، وعبدالسلام المسدي، ورأس اللجنة الأستاذ الجليل ناصر الدين الأسد، ولكن بقيت في ذهني عنه من خلال أحاديثنا في تلك الأيام المعدودة خصال فكرية وإنسانية لم يزدها تواصل العلاقة بيننا إلا رسوخاً. عرفت حرارة إيمانه بما يقوم به وثباته على ما يعتقد إنه الحق وقدرته الفائقة على الاقناع به وإيجاد الحجج المفحمة لإسكات المناوئين، وعرفت قدرته على الجمع بين تجذر في القديم ومعرفة بالأسس التي تبنيه والأصول التي ترتد إليها فروعه وثقافة حداثية واسعة متحها من معين ثر هو الولاياتالمتحدة في الفترة التي صبت فيها معارف العصر وتلوثت بما فيه السياق من حاجات وما يدور فيه من أسئلة وأطروحات. ولئن اشترك مع غيره في وضع الثقافة العربية لتجليات موروثها أمام امتحان الأسئلة الكبرى فإنه كان بينهم من أكثر من تطورت أجهزته المفهومية وأدواته الإجرائية واغراضية مؤلفاته، فلقد بدأ أسلوبياً تقريباً متأثراً بمنهج أستاذه الأمريكي الفرنسي مايكل ريفاتاد، ولكنه سرعان ما تحول عن ذلك إلى التأويلية الباحثة عن تناسق العوالم التي يمكن أن تبنى بشبكة قراءة عالية المردود سلطها على كل مظاهر الموروث، وفي هذه المرحلة عُرفت كتاباته عن الأبنية المهيمنة التي لا تستثني أي انعتاق من سلطتها دون خلخلتها من جذورها واهتمام بالتسلط الذكوري في الثقافة العربية وما تسرب منه إلى منعطفات تلك الثقافة معروف. ويختتم الدكتور حمادي صمود قائلاً: ثم جاءت فترة النقد الثقافي مطلع التسعينات فدوخ بها أغلب مجايليه وأصبح الناس لا يتحدثون إلا بذلك والمحافل لا يهمها النقد إلا إذا كان بحثاً عن الأبنية المحتجبة التي تندس في كل خطاب ثقافي وتفعل فعلها في الناس مراوغة كل يقظة لديهم ترسمهم في غفلة منهم في تبعية آسرة إلا أن يقوموا بالحفريات اللازمة لتفكيكها وكشف التناقضات التي تسكنها والمفارقات التي تبنيها. هنيئاً لك العيد يا أخي عبدالله ومتعك الله بالصحة وطول العمر لتواصل هذه المسيرة الوارفة. د. خليفة الوقيان الوقيّان: مع مرور الأيام وتراكم إنجازاته أصبح الغذامي عنوان مدرسة له تلامذة ومريدون ومن الكويت تحدث الناقد والشاعر المعروف الدكتور خليفة الوقيان مؤكداً أن للغذامي ومجايليه دوراً هاماً في تغيير الصورة النمطية للنقد وتحدث أيضاً: عرفت د. عبدالله الغذّامي في منتصف ثمانينات القرن المنصرم من خلال دراسته الشهيرة "الخطيئة والتكفير"، التي اطلعت عليها مع عدد من الدراسات التي قُدمت لنيل إحدى الجوائز، وقد لفت نظري تميّز تلك الدراسة، فاقترحت منها جائزة النقد. ومن المؤكد أن زملاء آخرين ممن طُلب رأيهم في تلك الدراسات اتجهوا إلى اختيار دراسة د. عبدالله، بدليل حصولها على الجائزة. وعلى الرغم من عدم تخصصي في النقد الحديث فقد شعرت أن عبدالله الغذّامي يُشَرِّحُ الواقع الثقافي العربي، أو يفككه من خلال تشريحه لتجربة الشاعر حمزة شحاته. فهل كان حمزة شحاته قناعاً فنيّاً لمشروع أكثر طموحاً، وأبعد مقصداً؟. والتقيت من بعُد بالغذّامي خلال مشاركاته في ندوات عديدة أقمها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، حيث أعمل. وكانت تلك المشاركات ثرية، وغير تقليدية. وبمرور الأيام، وتراكم الإنجازات أصبح الغذّامي عنوان مدرسة، وأصبح له مؤيدوه وتلامذته من جهة، وخصومه من جهة أخرى، وهذا أمر مألوف، ففي الثقافة العربية تيار لا يستهان بحجم تأثيره يرى في كل تجديد، أو خروج عن حالة السكون تمرداً أو نزقاً، بل قد يراه ابتداعاً وضلالة. ويحضرني في هذا المجال قول أحد المتشددين في مطلع القرن المنصرم مخاطباً دعاة الإصلاح والأخذ بأسباب التطور والتمدن في الكويت: ياعائباً منّا الجمود وطالباً منّا التمدّن إنَّك الحيرانُ إنَّ التمدّن لو علمتَ فَخسَّةٌ جاءت بها الأوربُ واليونانُ وهذا القول يعني الجمود ليس بالأمر المعيب، وإن ما يأتي به الأوربيون ويؤدي إلى التمدن والتطور محلٌّ للريبة والاستهجان. وأعتقد من جهة أخرى -إن للغدّامي ومجايليه وتلامذته من بعدُ إسهامات مهمة في تغيير الصورة النمطية السلبية التي حملها ولا يزال يحملها كثير من مثقفي ما اصطلح على تسميته ب"المراكز" تجاه منظمة الجزيرة والخليج العربي. وهذه المهمة ليست باليسيرة، إذ تطلبت من الغذّامي ومجايليه تنمية زادهم المعرفي إلى الدرجة التي جعلتهم أنداداً حقيقيين لرموز المدارس النقدية الحداثية، وأصبحت دراساتهم حاضرة لدى دور النشر المعروفة، الممتدة من أقصى المغرب العربي إلى أقصى مشرقه. وعلى هذا الأساس أحسب أن الجيل الحالي من الدارسين، بل والمبدعين أيضاً مدينون بصورة أو بأخرى - للجيل الذي يمثله الغذّامي الناقد، فقد تحمل هؤلاء الرواد المجددون عبء ارتياد المسالك الوعرة، وتذليلها وتمهيدها للقادمين الجدد. وإذا كان الغذّامي قد واجه بادئ الأمر معارضة من التيار المحافظ فهو لم يسلم - فيما بعد - من مصادمات أخرى أتته من داخل التيار الحداثي. ولعل شخصيته الإشكالية -إن صح التعبير- السبب في اندلاع تلك المصادمات. وبعد، فتحية للدكتور عبدالله الغذّامي، المفكر والباحث والمعلِّم، الذي أثرى المكتبة العربية بعصارة فكره النيّر. د. محمد صالح الشنطي الشنطي: مع كل كتاب للغذامي رؤية تعزز موقفاً أو تفتح باباً للحوار أو فهماً جديداً لأطروحة وممن عرف المحتفى به الدكتور الغذامي عن كثب الناقد المعروف الدكتور محمد صالح الشنطي فقد التقينا كثيراً في المحافل الثقافية وعرف رؤيته النقدية بوضوح وعاش كل الظروف التي مرت بالغذامي وهنا يقول: الدكتور الغذامي في ذاكرتي الشخصية تاريخ لحقبة مهمة، ربما لم يكن بمقدور كتابه "حكايتي مع الحداثة " أن يلخصها، بغض النظر عما أثير حوله من جدل، فتلك مسألة أخرى لا آنس في نفسي الأهلية للخوض فيها، ولكن الرجل قامة نقدية وفكرية ألقت بحضورها على مدى فترة طويلة من الزمن، فهو يمثل جيلا كاملا من النقاد دون انتقاص من دور قامات أخرى لم تتقاصر دونه؛ ولأنه موضوع الحديث - لمناسبة تخصه - سيقتصر حديثي عليه. عرفته في أمسيات نادي جدة الثقافي في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وقد احتدم النقاش حول الحداثة؛ فكانت تلك العشرية الساخنة التي اشتد وطيسها على مستويات متعددة في السياسة والدين والاقتصاد والأدب والثقافة بعامة، كان اسما لامعا هو وكوكبة من فرسان النفد والإبداع في تلك المرحلة، فكانت الحوارات الصاخبة التي تعلو في مختلف المنتديات والأندية الأدبية، كان الرئيس السادات قد استهل تلك الحقبة أو استبقها بقليل بزيارة القدس، ثم عقد معاهدة كامب ديفيد، وكانت الحرب الإيرانية العراقية قد اندلعت، ثم كان الغزو الإسرائيلي الذي احتل فيه العدو عاصمة عربية لأول مرة بعد احتلاله للقدس عاصمة فلسطين، وقد أراد من وراء ذلك تغييب القضية الفلسطينية ورموزها إلى الأبد، ثم كانت الحرب الأهلية اللبنانية مستمرة، فقد سبق أن نشبت في أواسط السبعينيات الميلادية، وبدت معركة الحداثة على المستوى الثقافي متممة للمعركة السياسية التي اشتد الجدل حولها على مستوى العالم العربي؛ وعلى المستوى المحلي التي تبدت في جدل حاد بين شخصيتين لامعتين هما المرحومان غازي القصيبي الشاعر والدبلوماسي والمفكر وأحمد محمد جمال الداعية والمفكر الإسلامي حول كامب ديفيد الذي لم يتوقف إلاّ بعد حين، أما على مستوى الأدب فكان كتاب الخطيئة والتكفير للدكتور الغذامي الحجر الذي قذف به في بركة الثقافة فاتسعت دوائر الدوامة التي أحدثتها لتتقاطع مع دوائر أخرى، فكان كتاب (الحداثة في ميزان الإسلام) وكتب أخرى عديدة تناقش هذه المسألة من وجهة شرعية، وتربط التحولات في مجالا الأدب بالدين وأحكامه، ناهيك عن تبنّي صحف بعينها مواقف مع كل طرف على حدة مما أجج نيران السجالات التي احتفلت بها الملاحق والمجلات الأدبية والثقافية. في ظل هذا الجدل الصاخب - الذي كانت الحداثة محورا من أهم محاوره وكتاب عبدالله الغذامي على وجه الخصوص موضوعه ،- شهدت تلك القبة بروز طليعة الحداثيين من الشعراء وكتاب القصة القصيرة فضلا عن النقاد، وقد تعددت المواقف وتفاوتت بين أصحاب هذه الموجة الجديدة، ولا أحد يستطيع أن ينكر أنها أعطيت هامشا واسعا من الحرية لتتبلور على صفحات الملاحق والمجلات وعلى منابر المنتديات، وكان ثمة من يتابع من الدعاة الذين حرصوا على حضور بعض المنتديات والأمسيات، وكانت مسألة الحكم الشرعي من أهم المسائل التي أثارت الرأي العام، في هذه الآونة كان الغذامي ومجموعة من النقاد والشعراء يطوفون في شرق البلاد وغربها قارئين للإبداعات الجديدة وناقدين ومحللين لها وطارحين رؤاهم النظرية وتطبيقاتهم في بحوث ومقالات مطولة وكتب، وكان من أبرز هؤلاء الدكتور الغذامي الذي كان يمتلك نفسا طويلا في السجال، وكان يتميز بكثير من الجرأة والقدرة على الحوار والجدل، ما جعله واحداً من ألمع النجوم الأدبية على مستوى العالم العربي، فاستضافته المحافل الأدبية الثقافية والأكاديمية في العالم العربي من الخليج إلى المحيط. ويواصل الناقد الشنطي فكرته عن ضيفنا: ولعل أهم ما يميز هذه القامة النقدية تطوره المستمر، فهو لم يركن إلى الدعة ولم يستنم للشهرة؛ فقد توالت كتبه، وفي كل كتاب رؤية تعزز موقفه أو تفتح بابا جديدا للحوار، أو تقدم فهما جديدا لأطروحة أو تقدم مفاهيم جديدة لتيار نقدي، ولقد اكتسب مكانته من بحثه الدؤوب في التراث فهو طلعة تربى في بيئة تراثية ثم انفتح على آفاق جديدة في الفكر والثقافة في الغرب، فتلاقحت معطيات هذه المصادر في رؤاه وأفكاره، ولا تتسع هذه العجالة لمناقشة فكر الرجل، فهو -في كل الأحوال نهض مع نقاد جيله- بأعباء مرحلة تاريخية كانت مختلفة عما سبقها، ومهما كانت المطاعن التي حاول أن يسجلها البعض على فكره وآرائه على نحو ما فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن الرجل شخصية أكاديمية نقدية ثقافية بارزة، فهو مع غيره علامة بارزة في تاريخ الثقافة العربية، سيأتي جيل من الباحثين ليدرسوا إنتاجه وينصفوه وينزلوه المنزلة التي يستحق في تاريخنا الأدبي، وبهذه المناسبة كل التحية والعرفان للدكتور الغذامي من صديق حاوره واستفاد منه وواكب مسيرته الثقافية مع تمنياتي له بالصحة وطول العمر. د. عبدالوهاب الحكمي الحكمي: كُتُب الغذامي علامات بارزة في النقد السعودي وهو أعمق من فهم بارت أما الناقد الدكتور عبدالوهاب الحكمي يعود بالذاكرة إلى الندوة النقدية التي أقامها أدبي جدة قبل ثلاثة عقود، ودور الدكتور الغذامي فيها، إلى جانب أنه مؤسس لمنهج نقدي حديث وأضاف الحكمي: الدكتور الغذامي علامة بارزة في النقد السعودي، فهو عندما كان في جامعة الملك عبدالعزيز كان عضواً فاعلاً في مجلس إدارة نادي جدة الأدبي فأقام الندوة الرائعة "قراءة جديدة لتراثنا النقدي" وأنا لا أنكر فضل أستاذنا الكبير عبدالفتاح أبو مدين ولكنه كان الجندي المجهول وراء تلك المجلات مثل علامات التي جعلت للمملكة سمعة أدبية بين الدول العربية، وكتابه "الخطيئة والتكفير" و"النقد الثقافي" وغيرهما من الكتب تعد علامات بارزة في النقد السعودي، وهو يريد أن يؤسس لمنهج نقدي حديث في النقد العربي، وكما قال الدكتور عبدالعزيز المقالح: إنه يسعى إلى تأصيل مشروع نقدي في الثقافة العربية، كما أن الملحق الذي أصدرته الزميلة الجزيرة وكذلك الكتاب الذي أصدره الدكتور عبدالعزيز السماعيل عن الغذامي قد شارك فيه نخبة من النقاد من الخليج إلى المحيط وكلهم على معرفة تامة بإنتاج الغذامي، وإذا نظرنا إلى كتاب "حكاية الحداثة" والذي يحلو للبعض أن يسميه "حكاية الغذامي" إنما يحكي قصة الحداثة وتاريخها في المملكة، لأن الحداثة سلباً أو إيجاباً تدور حول الدكتور الغذامي ومشروعه الثقافي وهو ملتزم بمنهج نقدي ثابت، وهو يكتب حين يكتب عن إدراك ومعرفة بالمناهج النقدية الغربية، وأنا اختلف مع الذين يقولون إنه أخطأ في فهم بعض نصوص بارت في كتابه "الخطيئة والتكفير" وإنما هو مدرك لها تمام الإدراك، وعندما يصف بارت بأنه فارس النص، يدرك تماماً أن بارت عكف على دراسة النصوص الغربية وحاول أن يفككها تفكيكاً بنيوياً وتشريحياً، متع الله الدكتور عبدالله الغذامي بالصحة والعافية وطول العمر. د. عبدالواسع الحميري الحِمْيري: تميز بالجرأة في اتخاذ المواقف وطرح الأسئلة والدفاع المستميت عن أفكاره ومن اليمن يقدم الناقد المعروف الدكتور عبدالواسع الحميري طرحاً جديداً عن الغذامي وأعماله النقدية التي تستثير المتلقي وقال أيضاً: حين نتحدث عن فحولة الغذامي فإننا نتحدّث عن فحولة ناقد محنّك؛ جرّب النّقد بمستوييه: النظري والتطبيقي، الأدبي والثقافي، وسعى ما وسعه السعي إلى فرض حضوره النقدي في الساحة النقدية الثقافية العربية. يتميّز النّاقد والمفكّر عبدالله الغذامي بالجرأة في اتخاذ المواقف وطرح الأسئلة وإثارة المشكلات والدّفاع المستميت عن أفكاره وآرائه سعياً إلى فرضها على مخالفيه، تبنّى عدداً من المواقف الجريئة إزاء عدد من القضايا المهمّة في حياتنا الثّقافيّة، من قبيل: موقفه من النّقد الأدبيّ، وإعلانه موته، كي يتسنّى له إحلال النّقد الثّقافيّ محلّه.كذلك موقفه من قضيّة الحداثة الشّعريّة العربية التي أعلن تقويض نسقها حتى يتسنّى له إقامة نسق "ما بعد الحداثة"- ما بعد البنيوية" باعتباره النّسق الحامل للنقد الثقافي الذي انصرف له مؤخّرا وكرّس له جهده. يعدّ نسق التفكير النقديّ الغذامي"نسق إثارة واستثارة" بامتياز (طبعاً ليس بالمعنى السلبي، وإنما بالمعنى الإيجابي)، إذ هو يتمتّع بقدرة هائلة على أن يثيرك ويستثيرك -بأطروحاته- ليجلبك إلى ساحة المواجهة معه: مؤيّداً أو معارضا، وقلّما استطعت البقاء في منطقة الحياد، ما حصر تفكيره النقدي في كلّ ما من شأنه أن يستفزّ وعي القارئ العربيّ عموماً، ويثير فضول الكلام لديه، ويدفعه، من ثمّ، إلى الدخول في حوار حيّ ومباشر معه أو إلى اتّخاذ موقف منه ومن آرائه التي يطرح؛ سلباً أو إيجاباً. وهو نسق مرتبط بنسق آخر هو "نسق الثّأر والغلبة" بوصفه نسق إفحام وإرغام، أو نسق سلطة وتسلّط، أو نسق إعلاءٍ وتعالٍ، ومن ثم بوصفه نسق انفراد وتفرّد في اتخاذ المواقف وإصدار الأحكام وتبنّي الآراء. من يتأمّل حركة الفكر النقدي الغذامي يلاحظ أنّه – غالبا – ما ينطلق من العام إلى الخاص، من الواقع إلى الواقعة، وهو أمر من شأنه أنّه قد صبغ الكثير من آرائه وأفكاره وأحكامه بنوع من التعميم في إطلاق الأحكام وتبني المواقف، وأفضى بالتالي إلى استخدام لغة هي أقرب ما تكون إلى لغة القطع واليقين.. ويضيف الناقد الحميري في طرحه: وعلى الرغم من كل ما قيل أو يقال عن المسيرة النقدية الغذاميّة فإن السؤال الذي لا يزال يطرح نفسه بقوة: لكن هل استطاع الغذامي كناقد ثقافي ّأن يقدّم ذاته، بوصفه هذا الكائن الذي يقع-بحقّ وحقيقة- على التّخوم/ الحدود كلّها؛ حدود الأطروحات المنهجية والإجرائيّة لاسيما تلك التي تبناها خلال سلوكه وممارساته النقدية؟ هل استطاع أن يجسّد تجاوز تلك الحدود ورفض النمذجة المنهجية بوصفها رديفاً حقيقيّاً للبرمجة النّسقيّة التي طالما حذرنا منها ناقدنا الغذامي نفسه؟ أم أنّه قد تحوّل هو نفسه إلى حدّ؟. نقول هذا، انطلاقاً من قناعتنا الرّاسخة التي تتطابق- ربمّا - مع قناعة الناقد الغذامي نفسه، بأنّ من ثوابت النّقد الثّقافيّ: أنّه يستهدف السّلطة، في الأساس، وبخاصّة سلطة الأنساق الثّقافيّة التي تهيمن في خطاباتنا، وتستلب وعينا وإرادتنا، أي إنّه يستهدف تحرير قوانا الدّاخليّة؛ قوى الإدراك والوعي أو التّصوّر والتّخيّل..أم أنه لا يزال هو نفسه واقعاً في شرك تلك الأنساق والنسقيّة؟!. د. صالح سعيد الزهراني الزهراني: كُتُب الغذامي تجمع بين الصرامة العلمية والبناء المنهجي والتذوق الموضوعي وهذا الناقد والشاعر المعروف الدكتور صالح سعيد الزهراني ممن صنف كتاباً عن الدكتور الغذامي أوضح رؤيته فيه وأودع فيه أيضاً إعجابه بمنهجية الغذامي وأنه مخلص لتخصصه ويقول: الحديث عن الدكتور عبد الله الغذامي ذو شجون كما تقول العرب. فالرجل أكاديمي يتميّز بصرامته العلميّة، وناقد يتفرّد بحسّ نقدي خلاّق، ومفكّر إشكالي متجدد، ومثقف عضوي بكل معنى الكلمة يحترم الكلمة، ويضحي من أجلها، ويؤمن بقيمتها. فالمعرفة عنده مسؤولية قبل أن تكون أهليّة. أتذكر صدور كتاب الدكتور الغذامي الخطيئة والتكفير عندما كنت طالبا بالجامعة، وكان السياق الثقافي عام 1405ه حاشداً بالعطاء والصراع الذي افتقد في كثير من تحولاته لشرف الخصومة بين طرفي الصراع، حتى إن الإشارة لكتاب الخطيئة والتكفير في البحوث العلمية بجامعة أم القرى في تلك الفترة موبقة من الموبقات التي لا تغتفر. قرأت الكتاب وأعجبت بمنهجية الغذامي وجسارته العلمية وهي جسارة ما كنت لأتقبلها لو لم يكن من أساتذتي في تلك المرحلة من عزز في نفوسنا المغامرة العلمية أمثال الدكتور لطفي عبدالبديع، وعبدالحكيم حسان، وعبد البصير حسين وإبراهيم الحاردلو ومحمود فياض على من قضى منهم نحبه -رحمه الله- ولمن ينتظر ولم يبدل حسن الخاتمة.وابتداء بالخطيئة والتكفير وانتهاء بالليبرالية الجديدة والغذامي يتميز بقدرة فريدة على السبر وصناعة الأسئلة وتهذيب المنهج. في نقد الأدب ونقد الثقافة والمجتمع والأفكار لدى الغذامي ما يمكن أن يقوله، فهو متحدث بارع، يمتلك رؤية واضحة، وقادر على تطويع المنهج لقضيته التي يعمل من أجلها، ولدية فراسة في سياسة النص لا تكاد توجد إلا عند قلة من النقاد العرب المعاصرين، وهذا هو الفرق بين الناقد وأستاذ النقد. أنجز الغذامي مشروعاً نقدياً غير مسبوق في الخليج العربي، واستطاع بهذه المثابرة أن يكون رقماً صعباً في حركة النقد العربي المعاصر مع اختلافنا الكبير مع الغذامي في كثير مما يقول، لكن الغذامي يظل فارساً يعتسف القضايا بفن من فنون الحيلة كما يقال. وطوال هذه الرحلة كان الغذامي مثقفاً عضوياً لا يهادن، وقد أوجد له هذا السلوك خصوماً ومناوئين، ونحاه عن كثير من المراكز القيادية التي كان جديراً بها، ولكن ذلك كله كان خيراً للغذامي لأنه انصرف للمعرفة وأنجز مدونة نقدية ستظل موضع تقدير للأجيال القادمة، ولو غرق الغذامي في دهاليز الإدارة لكان عميداً أو مديراً لإحدى الجامعات أو إنساناً عابراً في مكان عابر ولكنه أخذ الباقي وترك الفاني، والمتنبي لو كان محافظاً لدى كافور ما أصبح مالئ الدنيا وشاغل الناس، وابن خلدون لو بقي وزيراً مشغولاً بثقافة إكمال اللازم ما أبدع لنا أعظم كتاب في تاريخ الحضارة العربية. ويميل الناقد الزهراني إلى إعجابه بشخصية الغذامي الذي ظل محباً للثقافة مخلصاً لها لا تغريه المناصب مهما كان بريقها حيث قال:العلم عند الغذامي مسؤولية، والثقافة موقف، ولذلك انحاز لوجاهة الثقافة وترك للآخرين ثقافة الوجاهة فرضي كثير من نقادنا ومثقفينا أن يكونوا مثقفين أو نقاداً بدرجة موظفي استقبال، وأبى الغذامي إلا أن يكون سعيد الحلبي الجديد. الغذامي من أكثر نقادنا وعياً بالتراث واحتفاء به، وتجديداً له، واعتزازاً به وبلغته، فالغذامي خريج جامعة أكستر لم أسمع منه كلمة أجنبية في محاضرة أو ندوة أو مناقشة علمية كما يفعل كثير من خريجي الجامعات الغربية؛ لأنه يثق بذاته الناقدة وبجهازه المفاهيمي والمعرفي، وكل من اختلف مع الغذامي لم يستطع أن ينال من صرامته العلمية ووعيه النقدي. الغذامي في جميع كتبه لديه حس نقدي خلاق، من خلاله يقدم لك قراءة عميقة تنسرب تحت المواقف والكلمات والأفكار، وتقرأ المضنون به على غير أهله، فكتبه تجمع بين الصرامة العلمية والبناء المنهجي المحكم والتذوق الموضوعي الذي يجعل القراءة النقدية فلسفة، وموقفا معرفيا يؤرخ للحظة في مسيرة الثقافة العربية وليست وساطة شارحة بين النص ومتلقيه. اليوم الغذامي بعد أن ترك الجامعة تفرغ للتأليف وتثقيف الشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فكثير من الأكاديميين في هذه المرحلة يعيش حالة اكتئاب وشكوى مرة من انصراف الناس، لكن الغذامي يدير في تويتر جامعة افتراضية طلابها أكثر من 180 ألف طالب. وكتبه التي تحظى بقبول كبير لدى القراء من الماء إلى الماء متاحة على موقعه الشخصي بالمجان وهذا نبل ثقافي يذكر للغذامي ويشكر من أجله. اليوم بمناسبة بلوغ الغذامي عامه السبعين نقول له: إن هذا العطاء العظيم كان بسبب حب كبير، واليوم نبادلك حبا بحب وعطاء بعطاء، ولا نملك أعظم من دعوة صادقة أن يجزل الله أجرك، ويرفع ذكرك، ويختم لك في كل أمورك بالخير. شعر- أحمد الصالح (مسافر) حبيب البيان إلى أخي الدكتور عبدالله الغذامي شعر بأحلى القول رقَّ وأثمرا وبحب من كان الوفاء استأثرا عين البصير عينه.. ولسانه وبكل معنى مُشرقِ قد أبحرا عانقت فيها عبقريا فَنُّه فالسَّمعُ من طربٍ وشوقٍ كبَّرا حَمَلَت حروفُ الشعر فَيْضَ مشاعرٍ وحديث حب.. كان عنك المُخْبِرا حمداً لهذا الشعر يُعْلن حُبَّنا وهمومُنا عنها أبانَ.. وعبَّرا أستاذ خير المبدعين إمامهم نالتكَ جائزة وكنت الأجدرا فَتَّقْت دانات العقول جواهراً ومنحت طلاب العلوم الجوهرا في "جدة" كنت الخفَّي مثابراً مُتَفوقاً.. إذ "يحمد القوم السُّرى" ومَنَحْتَ طلاب "الرياض" ريادةً واستأثَرَتْ بك فيهمو أعلا الذُّرى وبكل نادٍ للثقافة.. تلتقي فيك النُّهى.. فكراً ورأياً.. نيّرا تتلاقح الأفكار فيها نُخْبَة فتجيءُ من بَعْد التدبُّر.. أبْصَرا جاهدت دون الرأي لا متثاقلاً عبئاً.. ولا درب الجهاد تَعَثَّرا ألقيت هيبة.. باحثٍ ومثقفٍ فيما تقول.. معلماً.. ومنظّرا فإذا الصحافة عنك تروي مُبْدياً رأياً حصيفاً.. أو تفند آخرا كم جُلْتَ في صفحاتها مُتَجَشِّماً عنت الخصوم فكنت فيه مُظَفَّرا في الرأي تمحيص ورُوح أصالةٍ ماضل حرف.. لم يُقارف منكرا تأتي من الإبداع آي فنونه وتصوغه لغةُ البيان.. مُحَبَّرا وإذا حروف يجمعون شتاتها غاياتهم فيها.. تباع وتشترى ما عانقوا نبض الحياة بشعرهم فتخيَّروا سَقَطَ الكلام.. تَخَيُّرا يا شاعري.. هانوا فهان كلامهم ومضى بهم خَطَلُ اللسان القهقرى د. عبدالرحمن السماعيل خطى الأيام ما كان أسرعَها خطى الأيامِ أرأيتَ كيف تمرُّ يا (غذامي) هل تدرك الأعمارُ أن سنينها طارت بنا خيلاً بغيرلجامِ ما إن نراها في الهموم بطيئةً حتى نراها كانطلاق سهامِ بالأمس كنا كالزهور نضارةً فيه نرى الأيامَ كالأحلام كنا نَهيم بكل وادٍ للجمال نحوم حول وروده بهيام نقضي حقوقا للشباب ولهوه وحياتنا تمضي بغير نظام واليوم أصبحنا وقد قَرُبَ المدى كبواشقٍ عجزت عن الآكام تمضي الحياة بنا إلى آجالنا أيامُها كطريدة الضرغام تتسابق الأعوامُ في أعمارنا حتى نرى الأعوامَ كالأيام وحديثنا المأثور في جلساتنا عن سائر الأوصاب والآلام نُزجي سحابةَ ليلِنا ونهارِنا نرجو من الرحمن حسنَ ختام **** كأسُ الشباب لذيذةٌ لكنها مُزجت بماء الوهم والآثام كم قد شربتُ وكم لهوتُ بساحها وتركتُ راحلتي بغير زمام حتى أفقت وفي رصيد غِوايتي جبلٌ من الآثامِ والأوهامِ فختمتُ باب غوايتي بندامتي وسحبتُ من ساحاتها أعلامي ورجعتُ للرحمن جلّ جلالُه وكففتُ عن عتَباتِها أقدامي **** فتحتْ لك السنواتُ بابا ساميا ففتحتَ بابَك للتراث السامي وحفظتَ حقَّ الله في الدنيا، فلم تخلطْ حدودَ حلاله بحرام ووعيتَ آثار الأوائل يافعا وعرفت عزةَ مجدها المترامي وذهبتَ تنهل من معينِ تراثها وتسير بين حقوله كالظامي فرأيتَ في نقد الثقافة منهجا ببصيرة المُتَفكِّرِ المقدام فنزعتَ عن نسَقِ الثقافة ختمَه وكشفتَ ما فيه من الإيهام فإذا ثقافة (أهلنا) موشومةٌ بغرائبِ الأفكار ( والأوشام) **** سبعون أهدتك الوقارَ وتاجَه فافتح يديك وحيّها بسلام خلعت عليك مع الوقار مهابةً ومع المهابةِ حكمةَ (النَّظَّام) سبعونَ ما خذلتك فيها فكرةٌ أغرتك بالأوراق والأقلام تجري وراء الضوءِ في ومضاتها وسواك خلف الضوءِ في الإعلام **** تمضي السنينُ وأنت خلف خطوطها متجددَ الأفكارِ والإلهام روحُ الشباب تحيط فيك وعزمُه من قال إن العمر بالأرقام