يؤثر بعض الأدباء والكتاب والمبدعين أن يسطروا في مراحل متأخرة من أعمارهم سطورًا من سيرتهم الحياتيّة، ويوثقون محطاتهم العمريّة، من خلال أدب (السيرة الذاتية) وهو فنّ له طابعه الآسر الجذاب، إذ يجد القارئ متعةً أدبيّة، وهو يسير في قراءة تجربةٍ حياتيّةٍ مليئة بالدروس والعبر والمواقف الحياتية، فيندمج القارئ مع هذه التجربة الإنسانية، ويتفاعل مع مواقفها بحلوها ومرّها، ويجد في تتبع هذه المحطات دروسًا تجمع بين المتعة والفائدة، مع جودة أسلوبية في الغالب نتيجة للتمرّس الإبداعيّ، الذي وصل إليه كاتب هذه السيرة غالبًا، وتستوي في ذلك السيرة الذاتية وهي الأكثر حضورًا، أو السيرة الشعرية التي تتخذ من بحور الشعر مسارًا لها، والسيرة عموماً قد تكون ذاتيّةً وقد تكون غيريّة، والغيريّة كتابة تتناول الآخر، فهي تعتمد على وصفٍ لحياة شخصيةٍ أخرى، متتبعةً لخطى حياتها، وساردةً لمآثرها، وهي وإن كانت مُجرّبة في أدبنا العربيّ، إلا أنها لا تكون في مستوى كتابة الشخص عن سيرته الذاتية، أو عن تجربته الخاصة، فليس هناك أكثر دقّةً وإحساسًا من أن يكتب الإنسان عن تجربته الحياتية التي عاشها، قلبًا وقالباً، وفي أدبنا السعودي المعاصر نماذجُ رائعةٌ للسيرة الذاتية مضى على بعضها عقود من الزمن، ولا زالت تملأ العين والبصر؛ فقد كتب زاهر الألمعي (رحلة الثلاثين عاماً) وسطّر محمد حسين زيدان (ذكريات العهود الثلاثة)، وكتب عبد الرحمن بن عقيل (تباريحه) البديعة، ووصف عزيز ضياء (حياته مع الجوع والحب والحرب) ووثق عبدالكريم الجهيمان (مذكراته وذكرياته) وأتحف حمد الجاسر مكتباتنا بشيء من (سوانح الذكريات) وقال حسن كتبي (هذه حياتي) أما الشاعر غازي القصيبي فقد كتب سيرته وهو ابن الأربعين سنة شعراً بديعًا في سبعة فصول، وغيرهم ممن دوّن رحلة حياته بما جادت به قريحته وذاكرته، فأدبنا السعوديّ حافلٌ بهذه الثروة السيريّة الغنية، والضافية، ومن هنا تبدو لنا قيمة هذا الإرث الأدبي الفاخر، فالسيرة الذاتية بقدر خصوصيتها في المحتوى؛ إلا أنها تنقل القارئ إلى آفاق مرحلةٍ تاريخية كاملة؛ لأنها تكون غنية بالشواهد والمواقف التي تحفظ الأحداث وتعكس الزمان والمكان بدقة ومتعة، لكن ماذا عن الذين رحلوا ولم يكتبوا سيرهم الثرية؟ بل ربما لم يجمعوا نتاجهم الأدبي في إصداراتٍ مطبوعة، أليست مهمة الباحثين والدارسين من بعدهم؟ والأسماء التي تستحق ذلك الاهتمام كثيرة، وليس الشاعر الراحل منذ أيام (محمد زايد الألمعي) رحمه الله سوى واحدٍ من أولئك الذين حلقوا في سماء الأدب، فتجاوزوا قمم الجبال بياناً حديثًا معاصراً، دون أن يجمعوا قصائدهم، أو يوثقوا رحلات إبداعهم، وما لا يُدرك جلّه، فلا يُترك كلّه. لقد رحلوا عن عالمنا، وتركوا لنا إرثهم شاهداً على عطائهم، رحلوا وفي فضاء ذكرياتهم ينبعث نداءٌ خفيّ، مفاده (الرجاء) بتدوين هذه السير العطرة، فهي تجارب تستحق التوثيق والرصد، ومن حق هؤلاء المبدعين علينا أن ندوّن ما نستطيع من سيرهم إنصافًا لجهودهم المميزة.