الإرث بالتعصيب محلُّ إجماع العلماء لا خلاف بينهم في ذلك، وقد اتسق عمل الأمة بالأخذ به جيلاً بعد جيل على أقوى أنماط التواتر العملي، وما زالت أملاك المسلمين تُتداول به منذ أربعة عشر قرناً بلا تشكيك.. المعارف والمهارات متنوعة متشعبة الأودية متمايزة الدروب، ولكل وادٍ أهلُه الذين هم أدرى بشعابه، ومصالح الناس الدينية والدنيوية قائمة على الرجوع إلى كل ذي معرفة فيما يتعلق بمعرفته من دقيقٍ أو جليلٍ، ومن أهم ما يُحرصُ فيه على أقوال المتخصصين العلم المتعلق بالضروريات الكلية وهي الدين والنفس والعقل والمال والنسب، وعلم الشرع أول العلوم المنظمة لها، فمن تطفل على الكلام في المسائل الشرعية أضرَّ بهذه الضروريات؛ لأن مبنى الشرع على حمايتها، وما من متكلمٍ يتناول مسائل الشرع خارج مجال معرفته إلا ويجرُّ على الناس مفاسد تتعلق بهذه الكليات، وقد قال بعض أهل العلم: (من دخل في غير فنه أتى بالعجائب)، ولا عجيبة أعجب من التقول على الله تعالى، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي هذا وعيدٌ شديدٌ، فكم من جاهلٍ ارتقى مرتقى صعباً أوقعه في مأزقٍ هو في غنى عنه، ومن تلك المواضيع الشرعية التي لم تسلم من أهل الجهل، ولم يتضح للبعض أنها ثابتةٌ بنص القرآن: (التوريث بالتعصيب)، ولي مع ذلك عدة وقفات: الأولى: أن فقه المواريث بابٌ من أبواب الفقه بالغ الأهمية؛ ولهذا أُفردت له مصنفات، وهو من العلم الذي لا يخلو بلدٌ يضمُّ المسلمين من الحاجة إلى متقنٍ له يُقيمُ لهم مسائله؛ إذ لا يتناصف أهلُ ميتٍ ويصل إلى كل ذي حقٍّ حقُّهُ إلا بتطبيقه على الوجه الذي فرضه الله عليه ولا مجال للتعالم فيه، ولا لإثارة البلبلة في موضوعاته، والمتقرر من أنواعه ثلاث حالات: الإرث بالفرض وحده، والإرث بالتعصيب وحده، والإرث بالفرض والتعصيب معاً بصفتين اجتمعتا في الوارث لسببين، والفرضُ عبارةٌ عن نصيبٍ مقدرٍ حدده النصُّ الشرعيُّ لكل وارثٍ بضوابطه المتقررة، والفروض المقدرة الثابتة بالنص ستة، وهي: الثمن والسدس والربع والثلث والنصف والثلثان، وقد انعقد عليها إجماع العلماء، وهناك فرضٌ اجتهاديٌّ هو ثلث ما بقي، وقد تقرر عند أهل الفن، وأما الإرث بالتعصيب فلا تُحدَّدُ له نسبةٌ معينةٌ تكون سقفاً لحقِّ الوارث، بل هو خالٍ من التقدير، يأخذون كل المال إن لم يكن ثمة صاحبُ فرضٍ، ويأخذون الباقي بعد أصحاب الفروض إن وُجدوا، وإذا استغرقت الفروض التركة سقطوا، لكن من العصبة من رُوعي في أنصباء أصحاب الفروض أن لا تستغرقَ المالَ دونه، فلا بد أن يبقى له شيءٌ. الثانية: الإرث بالتعصيب منصوصٌ عليه في القرآن الكريم، فقد قال تعالى في ميراث الأولاد:«يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين»، وقال في ميراث الإخوة: «فإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين»، وقال في ميراث الزوجين: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ....) الآية، ففي الآيتين الأوليين ذكر أن المال مُشتَركٌ بين الورثة للذكر مثل حظ الأنثيين، ولم يسمِّ لأيٍّ منهم فرضاً بتحديد نسبة مقدرة ينتهي إليها نصيبه كنصف التركة وثمنها مثلاً، وهذا هو التعصيب بإجماع العلماء، وفي الآية الثالثة فَرَضَ لصاحب الفرض فرضه إن لم يكن للميت ولدٌ، وهو النصف للزوج والربع للزوجة، وبيَّنَ أن هذين الفرضين يصيران ربعاً وثمناً مع وجود الولد، ولم يحدَّ للولد فرضاً بعينه مع أن النقصان ناشئٌ عن إرثه، فهو وارثٌ لا محالة، فماذا نسمي حوزه لباقي الميراث؟ لا اسم له إلا التعصيب، وقد وردت السنةُ مؤكدةً لما نصَّ عليه الكتاب العزيز، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا تَرَكَتِ الفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» متفق عليه، والإرث بالتعصيب محلُّ إجماع العلماء لا خلاف بينهم في ذلك، وقد اتسق عمل الأمة بالأخذ به جيلاً بعد جيل على أقوى أنماط التواتر العملي، وما زالت أملاك المسلمين تُتداول به منذ أربعة عشر قرناً بلا تشكيك، وما من عالمٍ إلا وقد وَرِثَ أو ورَّثَ به منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. الثالثة: احترام التخصصات جادّةٌ مُتفقٌ على سلوكها، وليس من المقبول التسور على تخصص من التخصصات أيّاً كان، وليس بوسع المتسور عليه أن يزحزح حقائقه من محالّها التي تقررت فيها، فلو تكلم المهندس عن دقائق الطب لم يكن لكلامه ميزانٌ في علوم الطب، ولن يُؤخذ على أنه علم، والمتسور له القدرة في تسويد ورقه بحبره كيف بدا له، لكن للعلم الحرية في رفض ما يأتي به، ووصْفُ المسألة المعينة المتقرر حكمها عند الفقهاء منذ عهد الصحابة إلى اليوم بأنها رأيٌ للفقهاء لا يقدح فيها، فمن أدلة الشرع القطعية إجماع فقهاء الأمة المحمدية، والمُراعَى في انعقاد الإجماع آراءُ الفقهاء المجتهدين، ولا عبرة بما يراه غيرهم، فهل منكر التوريث بالتعصيب على استعدادٍ بإرجاع ما ورثه سلفُهُ بالتعصيب؟ وهل هو مستعدٌّ أيضاً للتنازل عن حقه بالإرث بالتعصيب؟.