الفراق هو المر الذي ينساب داخل العروق ويتغلغل في بواطن القلوب، جرح لا يبرأ، سيفه مشهر يحرك مكامن الوجدان حسرة وتشوقاً وألماً، ليبعث للدمع مرارة الأسى، فتسح شجناً في لحظات عز فيها الصبر، لتعيد للقلب سيرته الأولى: فالفراق شعلة الأشواق ولهيب الحنين. تحن له الأضلاع وهي كليمة وتجهش من شوق بليل مؤرق فيأخذ منها الليل غمضة شارد ويسرق منها النجم نظرة مطرق تناجي دموع العين ودق سحابة فترعد من ثقل الهموم بفيلق كم كنا نتمنى أن نهمس لمن اختارهم قضاء الله وقدره أن الحياة بدونهم غربة، فهم السكن لأرواحنا التائهة.. وهم الحياة للحياة.. فكم جرعتنا الليالي بفراقهم شراباً أمر من الحنظل. فالفراق وجع لم يستشعر حسرة حروفه إلا من عانى حروقه. يقول وليم شكسبير: "ساعاتنا في الحب لها أجنحة، ولها في الفراق مخالب". ويقول نبال قندس: "في ذاكرتي ألف حكاية فراق، أتلوها على قلبي مساءً، أواسيه بها حتى لا يقتله الألم!". وبين الذكرى والدموع تأتي لحظة الألم التي تعتصر النفوس، هي لحظة التدفق العاطفي التي تجسد المعاناة المحركة لمكامن الشعراء، ليترجم ذلك الإحساس عبر منبر الكلمة بشاعرية تنقل القارئ إلى حيث الألم ليعيشه شعراً وشعوراً: يعانقُ الشعر آهاتي ويعزفُها عزفَ الُّلحونِ كأوتارِ النهاياتِ فاللغة هي الوعاء الذي ينقل الإحساس بجميل التصوير بلمسة دقيقة خيالية وواقعية مشحونة بقوة عاطفية عظيمة وإحساس طاغ لا يماثله شعور، وصولاً إلى عمق الهزة الشعرية والشعورية ليترجم الشعر عمق المعاناة لفقد من نحب: ما كنت أحسب أن ظلمة خافقي ستحل في مهد بثوب حداد واليوم عيني من بكاك جريحة أدمى الرحيل حشاشة ألأكباد ياليتنا نفدي ثراك وليتنا في القبر كنا لحظة الميعاد تجتمع عناصر الصورة الشعرية التي تتمثل في اللغة والموسيقى والخيال التي تتيح للشاعر الدخول خلف الأشياء واستخراج أبعاد المعنى ليحمل الشجن في قالب التصوير: نعتك الليالي والغيوم ُسواخنٌ بها الدمع مرسولٌ تهادى على إلف ستبقى سمائي والمهادَ وخافقي وعيني التي باتت كخسف على كسف فقصائد الشاعر تهدي إلى القارئ الإحساس والمعاني التي تلامس ذائقته ليعيش مع إحساس الكلمة وكأنها تصدر من روحه لكنها في النهاية تدل على رهافة حس كاتبها وقدرته للوصول إلى إحساس الآخرين : ما كنت أحسب مذ فقدتك أنني أصبحت وحدي في الطريق المفزع وبأن قامتك المديدة لم تعد شمسا تنير ظلام دربي المفظع هكذا هو التصوير الشعري يتباين من خلاله نقل الشعور، فهناك من هم مكلومون محزونون، لكن مشاعرهم حبيسة الأضلاع، لا يملكون الأدوات التي تعينهم على إخراجها، وما بأيديهم سوى الدموع، فيبحثون عن قطعة شعرية حريرية تحاكي الشعور وتحكي ما لم يُحكَ: رسائل العطر جودي إن بي شغفا ومرفأ الوجد طوق الروح في الغرق ليبعث النور في غار الأسى ألقا كأنه الصبح غطى سترة الغسق صهيل شوقي في الأضلاع مصطخب وقد تجرد من حد ومن نسق لم يكن شعر الفراق وليد العصر، بل كان شعراؤنا الأوائل يترجمون أحاسيسهم عبر قصائدهم وإن لم تكن مفردة بقصيدة مستقلة تحكي المعاناة إذ إنهم يتطرقون إليه ضمن القصيدة الواحدة التي تحمل عدة أغراض حتى تطورت لترفل بقصيدة كاملة، تحمل من التصوير الشعري البديع ما يجعلها تحيا على مدى العصور، لتكون ثروة شعرية للأمة جيلاً بعد جيل يستشهد بها في الأحداث المماثلة كأصدق مثل. ومن ذلك قول الشاعر.. أبو الحسن التهامي، في رثاء ولده الذي تقطر حزناً وتوجداً وتصبراً: حكمُ المَنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جاري ما هَذِهِ الدُنيا بِدار قَرار جاورتُ أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري أشكو بعادك لي وأنت بموضع لولا الردى لسمعتَ فيه مزاري ومنه قول الملك الأمجد: أَلَمُ الفراقِ نَفَى الرُّقادَ وَنفَّرا فلذاكَ جَفْنِيَ لا يلائمُه الكرى جسدٌ يذوبُ مِنَ الحنينِ ومقلةٌ حكمَ البعادُ وجَوْرُهُ أن تَسْهَرا ويبقى الشعر الصادق المرسوم بعمق، رائعاً بكل معانيه ورقته في كل زمان ومكان، ونحن بلا شك بحاجة إلى الرقي في الذائقة قراءة وسماعاً، ويبقى الفراق أشد ما يستنطق الحرف. * مشرفة تربوية بإدارة تعليم الخرج كل الأبيات الشعرية غير المسنودة بقلم الكاتبة