تقريباً لا أحد يعرف من كاتب أغنية "الليل يا ليلى" التي غناها الفنان الراحل وديع الصافي، لكن الأغنية عالقة في أذهاننا أيقونةً من أيقونات الزمن الجميل. حتى أن كثيرين يرددونها بنطق سليم للغة العربية دون أن ينتبهوا أنّها كُتِبت بالفصحى، وهذا من جماليات الفن وعظمته في ترسيخ اللغة وتحبيبها للناس. الذي يزيدنا إعجاباً بهذه الأغنية أنّ كاتبها هو المفكّر المصري مصطفى محمود صاحب البرنامج الشهير "العلم والإيمان"، وهو طبيب وفيلسوف وشاعر وقصّاص وكاتب مسرح. أي نعم هو ليس معروفاً مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وإحسان عبد القدوس وغيرهم من كتّاب مصر، لكن ذلك يعود للمرحلة التي مارس فيها نشاطه ولاقى قمعاً أكثره سياسي حجب شهرته وحجّمها لتكون محلية أكثر منها عربية. مات مصطفى محمود وفي حوزته 89 كتاباً، أغلبها فكري ناقش فيه الاجتماعي والسياسي والثقافي معاً، ولا أدري إن كتب أغاني أخرى بهذا الرونق والجمال. لقد احتاج الرّجل إلى لقاء واحد مع وديع الصافي ليمنح لاسمه بعداً آخر غير البعد الذي حُصِر وحوصِر فيه إلى آخر يوم في حياته. هذه التحفة الثمينة إذن، كانت على أيام طفولتي وصبايا تُغنَّى في الحفلات المدرسية، وقد اعتُبِرت جزءًا لا يتجزّأ من دروس اللغة، قبل أن تصبّ علينا لعنة لا أدري من أي باب، وتزجّ بكلِّ ما هو فصيح وراقٍ في مصبِّ الإهمال والتهميش. مؤخرا -وهذا نادر حدوثه- صادف أن حضرت سهرة رمضانية للفنان عبدالكريم الشعّار وفرقته الموسيقية، وفوجئت بابنته رنين ترافقه في وصلات غنائية أقل ما يقال عنها أنّها رائعة. صحيح، الأمر لا يخلو من أن "ابن الوز عوّام" لكن تناغماً بذلك السحر بين صوت الأب وابنته كان أكثر من مفاجأة لي، خاصة أني غرقت في عالم الكتب، وأعيش في شبه خصام مع الراديو بعد أن خذلني بكمّ الأغاني الرديئة التي لم تعد تطربني، وفي صمت فرضته عليّ طقوس القراءة. رنين الشعّار إذن بصوتها الرّقراق العذب الذي يتلبّس الأغاني كلها، من الطقطوقة إلى المواويل الصعبة. يرتفع ويخبو وفق ما تتطلّبه الأغنية، وإن كنت ذكرت أغنية "الليل يا ليلى" في مطلع المقال فلأنها من الأغاني الصعبة التي تحتاج لطبقات صوتية عدة قلّما يتقنها المغنُّون، لأخبركم عن مدى إتقان هذه الشابة الجميلة الخفيفة الروح الحاملة لجينات والدها الأستاذ عبدالكريم للأغنية، بشكل أبهر الحاضرين. لا شكّ أيضاً أن رنين حظيت بوالدٍ ومعلّمٍ متميز، فقد كان واضحاً طيلة السهرة وما سبقها من بروفات، أنّها رغم حرصها على الالتزام بخطّ والدها الذي أدى دائما ما يرضي "ذوّيقة" الفن الرّاقي، إلاّ أنّها فاقته خاصة في خفّة دمها وحلو كلامها وليغفر لي بسبب هذا الإطراء، فقد أثبتت الابنة الموهوبة الحاملة لجينات والدها أن التلميذ يتفوّق على معلمه لا محالة.