من يعرف الفنان وديع الصافي عن كثب يستشف رمزاً نادراً من رموز الفن الأصيل ومدرسة يحتذى بها فعلاً... وهو المخضرم الذي عاصر حقبات وعقوداً من الفنانين الكبار من المحيط الى الخليج. قلب وديع الصافي ما زال ينبض بروح الشباب وهو قام منذ شهور بجولة في مناطق لبنان لزرع أشجار الأرز واستحق وساماً من رئيس الجمهورية اميل لحود تقديراً لجهده المميز وعطائه الأصيل. و"الصافي" الذي أعطى ولده فادي نفساً فنياً وامتداداً تراثياً يرفد سهام الصافي زوجة فادي بالحس الفني فيرافقانه في حفلاته ويشكل بالفعل مدرسة لجيل طالع. هنا محطات من رحلة وديع الصافي الفنية: عندما مثل وديع فرنسيس ابن ال17 ربيعاً أمام لجنة من كبار الفنانين والأدباء في الاذاعة عام 1938 "أخذ على خاطره كثيراً" لأنهم غيروا اسمه فصيّروه وديع الصافي. لكن أعضاء اللجنة كانوا على يقين ان هذا الصوت الصافي سيحلق عالمياً ويصبح ملك الطرب والمطربين. "أنا بدي عيش من ورا هيدا النوري" عبارة رددها الوالد عندما كان الطفل وديع يطوف طرق بلدته نيحا - الشوف وأزقتها بالدربكة وهو في الرابعة من عمره. كان والده عسكرياً قاسى وعانى في حياته ويعتبر ان الموسيقى "لا تطعم خبزاً"، لكن وديع لم يستطع مبارحة الموسيقى وبرزت لديه المواهب بالفطرة في ساحات القرية. ووديع المولود عام 1921 يذكر انه أحيا عرساً وهو في الرابعة قبل ان ينتقل من مدرسة القرية الى مدرسة دير المخلص في بيروت بعدما انتقل للعيش مع أسرته في جديدة المتن، لكنه اضطر الى ترك المدرسة لمساعدة والده. قصة الصوت الصافي وعلى رغم ان شظف العيش أرغم وديع الفتى على ترك المدرسة، لكن ذلك لم يمنعه من متابعة دراساته الموسيقية فاتقنها على يد أستاذه اللاذقاني، فتعلم النوتة التركية التي كان يطورها بنفسه. ولا ينسى أبداً ما قاله أستاذه في أحد الأيام بعدما أعطاه لحناً للتمرين، فبادره "أنت عبقري وأتوقع لك مستقبلاً". وبعد احياء حفلات عدة في مقاهي بيروت حيث لمع اسمه، غنى وديع الصافي للمرة الأولى في اذاعة الشرق الأدنى وكان له من العمر 17 عاماً، ثم بدأ مشواره في دراسة الموسيقى في الاذاعة اللبنانية، وفي نهاية العام خضع لامتحان فمثل أمام لجنة من كبار الفنانين في الإذاعة مؤلفة من الشاعر ألبير أديب صاحب مجلة "الأديب" والموسيقي ميشال خياط والفنان محيي الدين سلام والد المطربة نجاح سلام، وهذه اللجنة اعتمدت تسمية وديع الصافي. يعتبر وديع الصافي ان التركيز على اللون البلدي أمر بديهي، فهل يمكن احد أن "يطلع من ثيابو" لكنه يستدرك ويقول انه غنى كل الألوان من البلدي الى المصري فالخليجي وحتى الفرنسي، فاللبناني مشهور باتقانه لغات الشعوب ولهجاتها اينما ذهب، وثمة شهادة يعتز بها وديع الصافي من مدير الاذاعة المصرية مدحت عاصي يرويها بفخر واعتزاز فيقول: "كنت مع عبدالحليم حافظ وكان في بداية شهرته وخلال الحفلة غنى معي "يا عين عالصبر"، فقال مدير الاذاعة: "الله أكبر، الراجل ده حيعلم المصريين يغنوا مصري". ومن المعروف ان عاصي كان متعصباً لمصريته ومتمسكاً بعدم دخول أي مطرب غير مصري الاذاعة. عكف الصافي على البحث في ينابيع التراث اللبناني - العربي الذي يزخر بتقاليد أصيلة، فطوّر اللون اللبناني من ميجانا وعتابا وقدّمه بأسلوب جديد، وبموسيقى حديثة فأوصله الى العالمية بالتعاون مع الاخوين رحباني وفيروز وصباح. ويعتبر الصافي ان الخمسينات كانت بالفعل العصر الذهبي للأغنية اللبنانية، وقد امتد أعواماً طويلة، بحيث وصل الفن اللبناني الى العالمية على رغم انه لا يرى ان صباح وفيروز قد أرستا مدرسة فنية فيقول: "الرحابنة ودويع الصافي هم من عملوا المهرجانات"... "المهرجان الأول أقيم عام 1957، حين كنت مهاجراً في الولاياتالمتحدة، وعندما عدت شاهدت المهرجان الذي شارك فيه الرحابنة وكان ناجحاً ولاقت فيه فيروز شهرة كبيرة. وفي العام التالي كان شرط الرحابنة للمشاركة في المهرجان هو مشاركتي، لكنني رفضت لأن مشاركتي معناها الغاء حفلاتي الصيفية كافة، وبعد تدخل رئيس الجمهورية والوزراء والنواب اشتركت عام 1959، وكان مهرجاناً ناجحاً مع فيروز. لكن المهرجان عام 1960 كان على درجة أكبر من النجاح. ويومها شاركتني صباح فكان عملاً ضخماً، ويمكنني القول ان عام 1960 كان ذروة النجاحات في بعلبك التي استمرت حتى 1974". ويصف وديع علاقته بالرحابنة كعلاقة الأخوة إذ كانوا يهتمون الواحد بالآخر أيام الفقر. لا أحد يستطيع تقليده وللصافي مآخذ على مهرجانات بعلبك الحالية أهمها انها تعنى بجلب المطربين الأجانب بمبالغ ضخمة مع اعتماد مطرب لبناني واحد فتقع الخسارة، بينما حفلات كبار الفنانين اللبنانيين هي التي تعوض هذه الخسارة. ويعتبر حفلات بعلبك حالياً ذات نمط عالمي. ويعتبر الصافي ان هناك ظواهر تبرز في دنيا الفن كل قرن أو كل نصف قرن كمبدعين، فهناك الكثير من المغنين، لكن الفنانين قلة والقرن الماضي كان غنياً بأمثال هؤلاء. واليوم، ومع توافر التقنيات الحديثة إن هذا لم يؤثر في الخلق والإبداع، فكم من المغنين حاولوا تقليدي، لكن هل استطاعوا الغناء مثلي؟ تعاون مع أم كلثوم... لم يتم في سؤالنا له عن علاقته بالفنانين القدامى، ترتسم بسمة صافية على محياه فيتذكر "تعاونت مع أم كلثوم وأعطيتها أغنيتين: الأولى "أنا فيما أنا فيه" والثانية "نعمة الأيام" وقد حفظت الأغنيتين وأجرت عليهما البروفات وكان من المقرر ان تأتي لتغنيهما في بيروت، لكنها توفيت قبل ذلك، وكنا نتوقع لهما نجاحاً يضاهي "شمس الأصيل" و"الأطلال". ومع محمد عبدالوهاب كان هنالك تعاون في أغنية "عندك بحرية يا ريس" لعمر الزعني التي أدخل عليها محمد عبدالوهاب لمساته، وكانت الغيرة دبت في داخله بعدما سمع لحن فريد الأطرش الذي أديته في أغنية "على الله تعود". ولأغاني الصافي نكهة في الكلام والمعنى، اضافة الى الألحان بفضل تعاونه مع شعراء مثل أسعد السبعلي، أسعد سابا، عبدالكريم شمس الدين، مصطفى محمود، أنطون عون، عبدالجليل وهبي، ثم مارون كرم الذي يسميه شاعر الطوارئ وكذلك يوسف الأمين وجورج شاهين. ومن الأدباء العرب أخذ من بهاء الدين زهير وأحمد العلام. ويقدر عدد أغاني الصافي ب600 أغنية. وعندما سألناه عن أحبها الى قلبه، احتار فهو كان كمن يختار بين أولاده. لكن عند الحاحنا أقر انه يرتاح الى "لبنان يا قطعة سما" و"طل الصباح" و"يا بيتنا خلف الضباب" و"دمعة وطن". و"أبو راجح" شخصية طغت على أدواره تمثيلياً على خشبة المسرح وفي السينما فكان له 10 الى 15 عملاً مع نجاح سلام في "نهر الوفا"، وشقيقته هناء ثم في مسرحيات الرحابنة مع صباح في "الأرز" و"قصة حب" وأيضاً "سهرة حب" مع فيروز. وقد بدأ وديع بهذه الأدوار ممثلاً لنفسه وبيئته ومحيطه وضيعته وشروال جده، فلا يمكن أن يمثل دور شكسبير مثلاً، وعندما سألناه عما إذا كان يفكر في تجسيد قصة حياته في فيلم، أعلن استعداده شرط وجود شركة انتاج كبيرة تتولى هذا العمل. حاربوني بالطائفية ويعرب الفنان المخضرم عن أسفه لتدهور مستوى الفن اللبناني، وخصوصاً الأغنية، محملاً المسؤولية للإعلام الذي يتعاطى مع الفنانين الكبار بالتشبيح والتجارة، في وقت يروّج للأغنية الهابطة. ومن هنا يدعو الى توحيد النقابات الفنية. ويعتبر ان الأجواء التي تسود "لا تشجع على الفن الأصيل لأنها تنحو نحو الطائفية حتى في الفن، وقد حاربوني طائفياً ويا للأسف قبل ان يعرفوا متأخرين أنني فنان لكل لبنان، وأدعو الى تشكيل معهد فني أشرف عليه مع أشرف الفنانين لتخريج الموسيقيين على غرار ما أفعل حالياً في معهد الكسليك لتعليم أصول الموسيقى والذي يقصده طلاب من فلسطين وسورية والأردن أيضاً". ولا يعلق الصافي على الفيديو كليب فالكبير يكبر والصغير يصغر والناس "فلتر" والجمهور الأصيل ما زال على رغم كل شيء أصيلاً وحتى الجمهور الشاب يحب الأغاني الأصيلة بدليل ان وديع الصافي تعاون مع المطرب الاسباني الشاب "خوسيه فرنانديز" الذي حفظ أغانيه منذ صغره فكانت حفلات ناجحة معه وكان مستعداً للسفر معه الى أميركا اللاتينية ليثبت ان اللغة العربية واللهجة اللبنانية تحديداً أصبحت عالمية. ينظر وديع الصافي الى مصر نظرة خاصة ففيها معهد قديم للعناية بالفن الموسيقي، والفن الغنائي هو الأهم في العالم العربي المصري غذى الفنانين اللبنانيين و"الشعب المصري كبير وطلع منو عبدالوهاب وأم كلثوم" لذلك كانت علاقته بمصر وطيدة إذ أقيمت له حفلة تكريم في السبعينات في القرن الماضي لم تقم قبله لفنان، ومنح الجنسية المصرية وصار يحق له الترشح الى عضوية مجلس الشعب وخفضت الرسوم على حفلاته من 23 الى 2 في المئة، كذلك حاز رتبة مواطن شرف في سورية، وكرّم في الأردن والمغرب وفرنسا وسويسرا فضلاً عن احتفالات التكريم والأوسمة لتي نالها في لبنان.