من عادات العرب السَّيارة أن تجعل التفضيلَ أساساً في التقييم، وأداة لبيان تراتبية العلوم والعلماء، وما أمر «أشعر بيتٍ» و»أهجى بيتٍ» و»أغزل بيت» قالته العرب، إلا سيراً على هذه العقلية التي تجعل الرتبية مقياساً للأفضلية وسلماً للتمييز في أول الأمر، ومن هذه السبيل أفكر من ذا يناظر سيبويه في النحو عندنا في البلاغة؟ وأعلم أن اسم العالم الجليل عبدالقاهر الجرجاني سيسبق غالب الأسماء في الذهن، ولكن قد يكون العالم المحقق العلامة النحرير سعد الدين التفتازاني حسب علمي وفي رأيي، وجرياً على قانون الانتقاء الذي لا يؤسس تأسيساً تعميمياً علمياً، هو المناظر لسيبويه في علم البلاغة. غلب لقبه السعد على اسمه، ولقد صرح بأن اسمه مسعود لا يدعى به، واشتهر في الحديث عنه السعد أو التفتازاني، ولقد درس على شيوخ كثر، لهم من الشهرة مالها، ولكن العجيب أنه لم يذكر عنه تلاميذ مريدون أو طلبة التزموه، رغم أنه هو العلامة المحقق، والذي أظنه من أسباب هذا اللكنة التي كانت في لسانه، وتطلق قلمه أكثر، فلقد رويت مناظرات له مع السيد الشريف الجرجاني في بلاط القائد المغولي تيمورلنك، والتي انتهت بغلبة السيد الشريف، ومما نقل أن الحق كان في جانب التفتازاني ولكنه كان صاحب قلم سيال مجيد، والسيد الجرجاني يغلب عليه اللسان البليغ والمنطق الفصيح، ومما ذكر السيوطي عنه بأن لكنة كانت في لسانه، فلعل هذه اللكنة قد حجبت عنه الأستاذية للطلبة والمريدين، ومما يرشح هذا الذي أظنه، أن تيمورلنك قدم ابن الجزري على السيد الشريف الجرجاني بعد ذلك فيما تلا من مناظرات، وحزن التفتازاني بعد أن انهزم في مناظرته أما السيد الشريف في بلاط تيمورلنك، ولم يستطع القيام بالدروس وتوفي بعد فترة قصيرة، ويروي كاتب جلبي في «سلم الوصول» أن السيد الشريف الجرجاني أتى التفتازاني في مرض موته واستعطفه وقبل يده، وقال:» أنت شيخي بالمعنى، لأني ما استفدت العلم إلا من تصانيفك»، وفي هذا ارتباط بقضية عدم وجود طلبة للشيخ، فهذا الجرجاني يقول إنه شيخه بالمعنى لا بالحضرة، ولقد ألفت كتب كثيرة في هذه المناظرة أشهرها «مسالك الخلاص في مهالك الخواص»، ومن العلماء الذين دققوا في هذه المناظرة غاية التدقيق الكفوي في كتابه عن تراجم فقهاء الأحناف المسمى: «كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار»، وذكر أن الخلاف استمر بين علماء البلاغة ودارسيها في تحديد من هو المنتصر في تلك المناظرة، ومن الذي التزم شروط البحث والمناظرة المعتمدة من النقض والمنع والمعارضة، ومما يكون سبباً لعدم اشتهار تلاميذ له كثرة تقلبه في البلاد ورحلاته الممتدة، فلا يطول به الجلوس في أرض واحدة، يقول -رحمه الله- في مقدمته شرح التلخيص: «فانتصبت لشرح الكتاب... حتى طفقت أجوبُ كل أغبر قاتم الأرجاء، أحرر كل سطر منه في شطر من الغبراء». ومن العجيب الذي يحتاج إلى مزيد نظر أن هذا العالم الجليل، البلاغي المؤصل لم يبتدع كتاباً أولاً في البلاغة؛ بل شرح ما أُلِّف قبله، فشرح التلخيص في كتاب أسماه المطول، ولقد عد خير شروح التلخيص، ومن العجيب أن تيمورلنك قد علقه على باب قلعة هراة؛ من شدة تعظيمه للشرح، وهذا قد يعد مقابلاً لمعلقات العرب الشعرية علقت في الجاهلية وهنا تعلق كتب البلاغة، ولا أظن أن علماً آخر قد نالته مثل مظاهر التعظيم والأبهة مثل ما نالته البلاغة هنا، بل وعند القائد المغولي والذي يحاول جهده في تحصيل العلم، والاحتفاء بالعلماء. ومن أجمل ما ذكره السعد في شرحه هذا قوله في مقدمته: «ثم جمعت لشرح هذا الكتاب ما يذلل صعاب عويصاته الأبية، ويسهل طريق الوصول إلى ذخائر نوره المخفية، وأودعته فرائد نفيسة وشِّحتْ بها كتب القدماء وفوائد شريفة سمحت بها أذهان الأذكياء، وغرائب نكت اهتديت إليها بنور التوفيق». وله حاشية نفيسة على كشاف الزمخشري، ويطير بي الفكر بين الماتن والمُحَشِّي، بين الزمخشري والتفتازاني، وبالجملة لقب السعد بالعلامة الثاني لعلامة أول هو الزمخشري، والحقيقة وهو وإن كان شارحاً ولم يؤسس متناً ابتداء فإنه مُنِحَ ملكة النفاذ إلى ما وراء المتن، فهو يستنبط ما غاب عن ذهن المؤلف نفسه، ولعل تقديمي للسعد على عبدالقاهر الجرجاني أن هذا الأخير قد قال في دلائل الإعجاز: «ولم أزل مذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى (الفصاحة) و(البيان) و(والبراعة)، وفي بيان المغزى من هذه العبارات وتفسير المراد بها، فأخذ لبعض ذلك كالرمز والإيماء، والإشارة في خفاء وبعضه كالتنبيه على مكان الخبيء ليطلب، وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج» وهو هنا خلاف السعد الذي يفسر المصطلحات مهما نال منها الخفاء، ولعله هنا متأثر بشيخه العضد، فتحرير المصطلحات آلة مستعملة بكامل قوتها عنده. يقول الشيخ الشعراوي في أحد تفاسيره المتلفزة من قرأ شرح التلخيص للتفتازاني وفهمه وضبطه، فقد بلغ مرتبة الاجتهاد في البلاغة، بل إن التفتازاني نفسه قد قال: «من وجد في كتابي هذا حرفاً واحداً خطأ فله وزن الكتاب ذهباً»، ويبدو أن تمكنه في التأليف وطول كعبه قد أخذ منه عمراً كاملاً، فأول تصنيفه بدأه في عمر السادسة عشرة بتأليف كتاب في الصرف، وقد رزق الجمع والتصنيف، ومما يرفد علو مكانته العلمية قول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: «لقد وقفت بمصر على تآليف متعددة، لرجل من عظماء هراة، من بلاد خراسان، يشتهر بسعد الدين التفتازاني، منها في علم الكلام، وأصول الفقه، والبيان، تشهد له بأن له ملكة راسخة في هذه العلوم، وفي أثنائها ما يدل على أن له اطلاعاً على العلوم الحكمية، وقدماً عالية في سائر الفنون العقلية، والله يؤيد بنصره من يشاء». أما ابن حجر في «إنباء الغمر» فيقول: «أخذ عن القطب وغيره، وتقدم في الفنون واشتهر ذكره، وطار صيته، وانتفع الناس بتصانيفه»، ويقول في الدرر الكامنة: «انتهت إليه معرفة علوم البلاغة بالمشرق، بل بسائر الأمصار، ولم يكن له نظير في هذه العلوم، ولم يخلف بعده مثله». ولو عددت من قربه من العلماء ومن كتب في التراجم لضُيقت علي المساحة هنا، وأكتفي بأن أذكر ما قاله هو -رحمه الله- عن علماء البلاغة قبله، ذكره في مقدمته لشرح المفتاح: «ولو قلتَ في علم البلاغة إن هذا بناء أسسه عبدالقاهر، وأكمله جار الله، ورتبه بل زينّه المصنف لم يبعد»، ويقصد بالمصنف السكاكي، وأنا أقول: بل إن ثمة فارق مائز بينهم وبينه، رحمات الله تترى عليهم جميعاً. * أكاديمية بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن