ساستكري نزلًا صغيرًا محاذيًا لروضة وديقة, بعد أن اجتازت قلوصي واجتسرت الجبال الصلدة. بعد مسيرة نصف ليلة في سهل البقاع. هكذا قال الأعرابي: أول شيء عرفته في لبنان وجعلني أحبها أكثر (فيروز), التي غنت لكل الأشياء الجميلة بذهول وخشوع وصوت خجول يشبه التأملات, فصوتها المتناهي كالسحر رُبّما كان مبثوثًا في تفاعل درجات الكلام التي نصبتها «سفيرة النجوم», وصوتها قرع أجراس كنيسة عتيقة في أعالي قمة جبل مطلٍ على جانب واسع من غابة مكتظة بالآجام تشابك عند نهاية المنحدر, مع ساحل بحر تُرى في أفقه القاني -ما يشبه البخار- قبل أن تلفلف الشمس ردائها الخمري المنسحب وراءها بسكينة, المراكب والأشرعة. أو لأن هذا الصوت الذي أحببت منبعث الضياء, فأحببته حب القمر لضوئه, أحبت الشمس لشعاعها. هذه المضيئة لم تكتفِ أن تستمد النور من القمر لوحده, أو تستمد الضوء من الشمس لوحدها. فيروز الصباحات المشرقة عسير عليّ تذوقها مع قهوة الصباح التي تطيب للبعض, كم أشتهي تجرع صوتها كل حين ولا أرتويها. هذه الفنانة تضافرت معها القوى والأجناس والعوالم والكواكب والأفلاك كي تسعد سكان الأرض بصوتها.. هذا الصوت الفيروزي ينبعث ثائرًا كمتربص أو مستكن بمنتهى التذلل والخضوع حين تغني للعشاق وللحب وللحياة البسيطة وللمدائن، كم أشده وهي تطل بكامل تعرشها ترتدي فستانًا من فساتين العصور الوسطى أو القديمة, وتقف منتصبة «كالألف», ملقية أنفها بانفة مرتكزًا صوب جهة من الكون ليستمع إليها وهي تقدم القصائد والأناشيد القديمة, وفمها الصغير يترنم بموشّحة أندلسية ومواويل وعتابات. أما ما جمعناه في هذا الملف, فهاهم الأدباء والمثقفين كرماء النحيزة ممن حبّرُوا صحاف «مجلتكم الثقافية», يدلون بشهاداتهم مؤكدين وواصفين أن الحركة الثقافية في لبنان تغيرت مع المتغيرات الإقليمية والحياتية والتقنية، وتأثرت بالمعطيات الخارجية في مكان، وحافظت على حضورها في أماكن عدة. رؤية في واقع الرواية اللبنانية المعاصرة بين الكاتب والروائي الدكتور «محمد إقبال حرب»: أن الرواية فن أدبي سردي يضم الكثير من الشخصيات تتنوع بتنوع صفاتها وانفعالاتها، له قواعد فنية تعرف عليها العرب من خلال الترجمات، إذ يعتبر فن الرواية فناً جديداً نسبياً عند العرب وأن لبنان لا يختلف كثيراً عن غيره من البلدان العربية في هذا المجال مع الأخذ بالاعتبار أنه كان من السباقين في هذا المضمار إذ انطلقت الرواية اللبنانية مع بداية خمسينيات القرن الماضي. «الحرب الأهلية أنتجت جيلاً طائفياً ملوثاً» وقال «حرب»: وحتى نقيّم الرواية اللبنانية الحديثة علينا الأخذ بالاعتبار الظروف التي تحكم إبداع الروائي. فالرواية هي مجموعة من الخبرات الإنسانية والثقافية تحفز الكاتب إلى تجاوز واقعه إلى عالم أسمى يعكس البيئة والمحيط الإنساني الذي عاشه الكاتب. بعد حرب أهلية طاحنة أنتجت جيلًا ملوثًا نفسيًا, تكتسيه ويلات الحرب في برنامج تربوي ملوث طائفيًا وسياسيًا وواقع اقتصادي طارد. إضافة إلى برامج تعليم مستوردة تفرض على الطالب ثقافات لا يعيشها وشخصيات لا علاقة لها بواقعه مما أصاب الجيل الجديد، جيل الحرب وما تبعه بازدواج في الشخصية تتلاطم بين الواقع والخيال. إضافة على أن وزارة التربية لم تفرض على المدارس الأجنبية أو التي تتخذ من مناهج الغرب راية لها تدريس اللغة العربية بشكل جدي صارم. و»تابع»: من هنا نجد بأن الطالب يقرأ الروايات الأجنبية بلغتها الأم مما أضعف العلاقة الوثيقة بين الطالب ولغته الأم فنتج جيل جديد لا يفقه اللغة ولا يعير منتجاتها الأدبية اهتماما بل وتشرَّب الروح الغربية وثقافتها فأخذ يدافع عنهما وينتشي عصارتهما ليعاني بعدها من فقر حاد في كينونته الحضارية فلا يستطيع الربط بين ما يقرأ ويتخيل وبين ما يراه على أرض الواقع. أثر هذا على الروائيين والقاصين الذين لا يجدون مثالاً عربياً يقتدون به ولا يجدون القارئ والناقد ليرشدهما إلى درب العطاء ويبعث في إلهامهم حافزاً يدفعهم للمغامرة بأفكارهم وخيالهم إلى عالم الإبداع. ومع هذا نجد أن الرواية اللبنانية الحديثة تشرق بين الحين والآخر فبرع العديد من المعاصرين كالأستاذ عبده وازن وانطوان دويهي وطلال شتوي باللغة العربية. ولا نستطيع ألا نذكر روائيين لبنانيين كتبا باللغة الفرنسية، أمين معلوف والكسندر نجار. وأوضح «حرب»: أن مشكلة الروائيين العرب بشكل عام أنها مقتبسة بطريقة أو بأخرى وشخصياتها مشرذمة. أضف إلى ذلك ما يوجد في لبنان موجة من روايات الحرب التي أشبه ما تكون بحكاية تتقاسم شخصياتها البطولة التي يُفرغ منها الكاتب عُقد الحرب والطائفية في ظل العولمة وثورة التكنولوجيا اللتان نكأتا مواطن الضعف في المنهج التعليمي الذي تلقاه الكاتب عبر سنوات الدراسة الغير مهتمة باللغة العربية وفنون الأدب وبلاغة التعبير. وزاد: أعتقد بأن الرواية اللبنانية الحديثة لن تواكب الإبداع في ظل برنامج تعليمي متهالك وإصرار المدارس الخاصة والأجنبية على عدم الاهتمام باللغة العربية تحت إصرار أهل الطلبة بتعليمهم لغات أجنبية ليضمن أبناؤهم عملاً في الخارج. نحن نجني ما زرعناه، إذ لا يمكن أن نزرع بذور حضارة مغايرة ولغة غريبة في عقول أطفالنا ونتوقع ثماراً أصيلة تعكس عمق حضارتنا ومرارة واقعنا. «النهضة الشعرية المعاصرة في بيروت» وفي محور النهضة الشعرية في لبنان أشار الشاعر «مردوك الشامي»: إنه في بيروت وفي مرحلة الستينيات من القرن الماضي، أسّست لحركة الحداثة في الشعر، التي تهدف لمشاريع عدة من خلال الشعر، كان من أهمها وأكثرها تأثيراً (حركة خميس شعر)، التي وضع حجر الأساس لها «يوسف الخال، وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وأدونيس والماغوط»، وانضم إليها فيما بعد شعراء كثيرون لبنانيون وعربا. «وأضاف»: فيما كان على الضفة المقابلة ثمة نشاط شعري كبير لرواد (الشعر الكلاسيكي), ضاعف من تأثيره وجود شعراء كبار في بيروت مثل «نزار قباني، ومحمود درويش»، لكون بيروت محطة لغالبية الشعراء الباحثين عن التوهج، والانتشار، أمثال «عبدالوهاب البياتي، وسعدي يوسف»، وآخرين. وقال: تلك المرحلة ولدّتْ صِراعاً بين أصحاب الكلاسيك، وأصحاب القصيدة النثرية, صراعًا أظنه لا يزال قائماً. إذ لا هؤلاء يعترفون بهؤلاء، والعكس ينطبق أيضاً على الضفة الأخرى.. غياب الكبار، لم يترك الساحة الشعرية خالية، بيروت ولادة شعراء، وولادة أشكال مختلفة للقصيدة، في ظل هامش كبير لحرية البوح، وسهولة في الانتشار، واتساع الساحة للجميع. فبيروت اليوم ومنذ مرحلة التسعينيات، تشهد بريق أسماء لامعة شعرياً، في القصيدة الحديثة، وفي القصيدة الموزونة، وكذلك في القصيدة المحكية اللبنانية، التي اشتدّ ساعدها في السنوات الأخيرة من خلال أصوات شعرية دعم حضورها شغف جمهور الشعر بالمعاصر بهذا النوع من الشعر، يعود أساسه لسيطرة الزجل لسنوات وعقود. غياب «الصحافة الورقية» أثر على الشعر وأضاف: «كما ترك فراغًا كبيرًا غياب (الصحافة الورقية)، خاصة غياب ملحق «جريدة النهار»، وإقفال «جريدة السفير»، فكانت الوسيلة البديلة وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت. صنعت حركة أفقية فتحت الأبواب للجميع من دون رقابة، خاصة في غياب فادح للحركة النقدية وخلال عقود طويلة، ولا تزال تعاني من الغياب. كذلك غياب «المنابر الثقافية»، وإقفال كثير منها، إذ أفسح هذا المجال لظهور المنتديات والملتقيات الثقافية، التي يتجاوز عددها اليوم المائة والنيف، ما أوجد ظهور حركة كبيرة لكنها تشبه «طفرة» بلا حدود وتفقتر للأسس والتنظيم، لم تقدم حراكاً حقيقياً للحركة الشعرية. وإن كان من إسهامات إيجابيات فمن خلال تشجيع المواهب الجديدة. فقُدمت الأسماء اللامعة وغير اللامعة، -وأوصلت في الوقت ذاته إلى منابر الشعر أنصاف شعراء وشاعرات- وتركت الساحة مفتوحة للتصنيع المجاني وعرض الهشاشة، والتلفيق الشعري. فثمة إذًا منتديات تعمل بأصالة وتحترم المنبر، وثمة أخرى لم تقدم سوى العبثية والخلط المجاني. لكن الناتج يمكن اعتباره في كل الحالات انتصاراً للشعر، وتنمية جمهور شعري مختلف المشارب والأهواء، يهتم فعلاً بهذه الحركة ويتابعها. «بيروت المنبر الأكثر عَصْرنة وتجديداً» وزاد: اليوم في لبنان, شعراء مهمون من كل التصانيف، في المحكية، والموزون والمنثور، واليوم أيضاً نشهد عودة للقصيدة الكلاسيكية وقصيدة التفعيلة، وهذا يؤكد موسيقية إذن المتلقي، وشغفه بالإيقاع، وثمة «كلاسيكيون», في منتجهم الحداثة ومواءمة العصر، وثمة من يعمون إلى النظم السليم لكن بلا روح. وبشكل عام بيروت اليوم, تعيش نهضة شعرية في الكم، وفيها أيضاً نهضة في النوع والمحتوى، تؤسس للمراحل القادمة. وإن كنت لن أدخل لعبة الأسماء، إذ ثمة كثيرون رائعون، وكثيرون أقل روعة، وهذا طبيعي في جو من الخلط غير المتوازن. وعلى رغم كل التباينات، بيروت تبقى المنبر الأكثر عصرنة وتجديداً، وإفساحاً في المجال لكل من يقف على منابرها من أهلها، ومن الوافدين إليها، هذه رسولية بيروت، كانت وتبقى. «لبنان الدولة المتحضرة سينمائياً» وفي جانب حركة لبنان السينمائية أكد الناقد «محمد حجازي» أن عجلة الحركة الإنتاجية السينمائية اللبنانية تحركت في الآونة الأخيرة بشكل جيد، إذ يحاول السينمائيون إيجاد نوع من الاتفاق مع مؤسسات الإنتاج في البلد ليقدموا مجموعة من الأعمال المقبولة. وبتنا نرى أعمالاً تجارية تعرض بمستوى متوسط، وهذا لا يمنع من وجود بعض الأعمال ذات الإنتاج المشترك بين لبنان وعدد من الدول العربية أو الأجنبية, إذ إن هؤلاء ينالون نتيجة أفضل كون «العالم الغربي», لا يدعم السينما إنتاجياً ما لم يكن الفيلم على مستوى كبير. لهذا فإن الدعم يساهم في تطوير وتنمية الحركة السينمائية في لبنان. وقال «حجازي»: الدليل الأول على ذلك أعمال نادين لبكي التي نالت جائزة لجنة التحكيم في مهرجان «كان السينمائي», عن فيلمها «كفر ناحوم» والمرشح كذلك لجائزة الأوسكار من قبل وزارة الثقافة اللبنانية ليمثل لبنان في المهرجان كفيلم أجنبي غير ناطق باللغة الإنكليزية. فمع أن هذا الفيلم لبناني الإنتاج لكنه حظي برعاية شركة «سوني» العالمية التي تولت توزيعه في الخارج. وهذا له علاقة بحضانة عالمية للفيلم. من ناحية ثانية نجد أعمالاً أخرى لا يصرف على إنتاجها الكثير، إذ لا تنتج بعض الأعمال بحدود 500 ألف دولار وصولاً إلى 750 ألف دولار، وهذا ما يعتبر في عالم السينما لا شيء إنتاجياً، لأن ما صنعته نادين كلفها 4 ملايين دولار. بالإضافة إلى ذلك هناك أعمال بسيطة مثل «غداء العيد» للمخرج لوسيان أبو رجيلي، وهو فيلم جيد عرض في الخارج، والآن يخضع للمباراة في مهرجان «الجونة السينمائي»، وهو نموذج من الأفلام التي يمكن مشاهدتها وهي متوسطة في مستواها وقيمتها. «135 صالة» جعلت لبيروت المكانة العالمية «سينمائية» وأضاف: «تكمن أهمية بيروت في هذا الإطار في صناعة الصالات، فنحن كعاصمة في بلد صغير لدينا ما يقارب 135 وهذا يعتبر رقماً عالمياً له قيمة ومستوى، قياساً لعدد السكان، فنحن في مصاف الدول المتحضرة سينمائياً، أي أننا الأوائل في الشرق الأوسط ولدينا مكانة مهمة عالمياً على صعيد نسبة الصالات قياساً بعدد السكان. فالتطور الذي حصل في الفترة الأخيرة أثر ليس على الحركة السينمائية فقط بل أيضاً على الحركة الإنتاجية، فالدعم الذي يحصل عليه الإنتاج السينمائي هو دعم جماهيري، إذ يتوجه الناس إلى الفيلم اللبناني حباً فيه ودعماً له. أما على الصعيد الثقافي: فهناك نوع من البعد والهجرة وعدم رضا نقدي للأفلام الجديدة التي هي أفلام تجارية. لكن لا نستطيع تعويم أفلام تجارية عادية فارغة حاضنة لبعض الرسائل وتضم تمثيلاً بمستوى متواضع، وإخراج سريع، ولكنه يتضمن صورة جيدة لاستخدام المخرج تقنية مقبولة، فتأتي الصورة صحيحة من دون مضمون يعطي هذه الأفلام قيمة. فبعض الأفلام النخبوية لا تقدم جماهيرياً، وبعضها لا يعيش في السينما أكثر من أسبوع، وهذا لا يناسب الصالات، كون هناك نظام عالمي، فإذا لم تصل بعض الأفلام إلى حد معين من المشاهدة يتم سحبه فوراً من الصالة، وإلا فإنه لن تعود الشركات العالمية لتبيع أو تقديم أفلامها في الصالات اللبنانية. أما أفلام الجادة للمهرجانات فلا يهتم فيها الجمهور لأنها قدمت إلى لجان التحكيم لتكتسب جوائز، إذًا الحركة السينمائية في لبنان موجودة وتتطور، وتجذب إيرادات جيدة تحرك عجلة الإنتاج أكثر. «التقنيات الإلكترونية ثورة عظمى في عالم التشكيل» وتطرق للفن التشكيلي وتقنياته الحديثة بين الفنانين التشكيليّن في لبنان المحاضر السابق في الجامعة اللبنانية, والجامعة اللبنانيةالأمريكية في بيروت, الدكتور «جميل ملاعب» مبينًا أن الحركة التشكيلية في لبنان غنية جداً ومتنوعة ولديها مستويات مختلفة، إذ إن الفنانين الذين لديهم تجربة ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية استمروا بعد الحرب بقوة، مضيفًا أن الجامعات في لبنان ومنها الجامعة اللبنانية والأميركية وغيرها، تخرّج كل سنة مجموعة من الفنانين يحاولون إيجاد طريقهم وشخصيتهم بالاستعانة بالثقافة العالمية واللوحة العالمية وما هو موجود في تاريخ الفن من أعمال، وأضاف كذلك التجربة الفنية اللبنانية والعربية. وقال: باتت الحركة التشكيلية بعد الحرب نامية أكثر، لأن الحرب لم تكن سلبية على الفن التشكيلي في لبنان، كونها جزء من تعبيرية الحياة، فالفنان في الحرب لا يتوقف عن العمل، بل هي تعطيه حافزاً وجودياً ليعبر بقوة وتعبيرية أكثر في الحياة الفنية. وهذا لا يمنع أن يدخل بعض الأشخاص إلى مجال الفن التشكيلي كما الكثير من المجالات قد يكونون بعيدين تقنياً. لا مانع لذلك، كل الناس تتكلم اللغة العربية ولكن ليس أي كان يستطيع تحويل الكلام إلى شعر، لأنه يحتاج إلى الموهبة والثقافة والعمق الفلسفي، وإلا سيصبح فناً حرفياً. وأضاف الدكتور «ملاعب» الفن التشكيلي في لبنان يمتاز بجرأة في طرح الأفكار هذا العصر أكثر مما كان عليه سابقاً, غير أن طرح الأفكار صار أسرع من السابق، وهذا أمر غير جيد، إذ إن الفنان التشكيلي بات يصور ويرسم بسرعة. ومع أن المواد التلوينية بات الوصول إليها أسهل، إذ إنها في الماضي نادرة ولا تتوافر كل الألوان, فلم توجد الاختراعات الكيمائية التي تصنّع ألواناً ثابتة وجميلة وبراقة. اليوم كل هذا متوافرة -أي أن صناعة مواد الفن التشكيلي متطورة- لكننا نريد فنانين يكونون على المستوى المادي الذي يخترعه العلماء، ومع أنه يوجد فنانون ولكن نريد البحث عنهم. «المسرح واقع يؤلم ما قبل الدفن» أصبح المسرح اللبناني اليوم صورة مهشمة ومهمشة من وعن الواقع العربي، وفي برواز مكسور بعد أن كان راية لتطوير الفكر والحال العربي والمحلي، كما يرى الناقد «جهاد أيوب» وقال أيضًا: هو اليوم يؤكد الكذبة، وتجاربه متواضعة لا يستطيع من خلالها لفت النظر الوجودي والمنافسة، أو التأثير الثقافي الاجتماعي الفردي ومن ثم العام, إذ إن مسرح لبنان من دون مسرح! «مضيفًا» أنه حينما نرغب الحديث عن المسرح في مكان ما علينا معرفة تاريخه - ومن هذه القاعدة وبعجل بانورامي سريع أستطيع الحديث عن المسرح اللبناني- الذي بدأ بجهود فردية مجبولة بالحلم، فلو أخذنا مرحلة الستينات التي ترسخت فيها التجارب الفردية المنوعة في عالم المسرح, غلب عليها مفهوم إثبات الوجود كثقافة غير منتشرة، اعتبرت نخبوية - منتصف الستينيات - أخذت تؤثر, وتتأثر في غالبية المناطق اللبنانية. فغدت بيروت «مشرقة» مسرحياً وثقافياً وفنياً. ساعد في ذلك مهرجانات المناطق وبالتحديد «بعلبك» وحرية الإعلام، والتحرك الاقتصادي الذي جاوز الحراك السياسي العروبي بسبب القضية الفلسطينية. مسرح «الحرب الأهلية» يزدهر! وفي نهايات الستينيات وبدايات السبعينيات, ازدهر المسرح اللبناني بتعدد مدارسه وأساليبه وشخوصه، ومعه مسرح الحرب الأهلية اللبنانية «بدايات 1975» فتنوعت التجارب المسرحية بطريقة عجيبة، وأخذت العروض تنتشر شعبياً ومنها (السياسي، والفكري التجريبي، والمنوع الاجتماعي الناقد والساخر)، نذكر انطوان ولطيفة ملتقى، ومسرح شوشو. وغلب المسرح الغنائي المُطعم بالوطنيات وبعض الرمزيات السياسية وجماليات الشكل مع النغم، وثُبت هذا النوع من المسرح بقوة لوجود السيدة «صباح» التي كانت آنذاك بأوج نشاطها لبنانياً، ولدعمها للوجوه الشبابية مثل «روميو لحود» المقبل من بلاد الغرب، و»وسيم طبارة» الحالم بالنقد المباشر للمجتمع اللبناني والسياسي، والموسيقي «وليد غلمية» المشغول بإيصال الموسيقى، وتطلع «الأخوين رحباني» مع فريقهم المؤلف من (فيروز ونصري شمس الدين وهدى حداد) إلى مسرح غنائي يشبهما من حيث الجدية والهدف، ومسرحيات «زياد رحباني» الحدث الصارخ حيث جمع الغناء والحوار الكلامي معاً، وفجأة أشرق مسرح الحكواتي مع «روجيه عساف» وخرج من مجموعته تجربة مسرح «حكواتي المونودراما» مع «رفيق علي أحمد. في تلك الفترة كان المسرح اللبناني حالة تثقيفية سياسية انتقادية تجريبية منوعة فاعلة ومشرقة متصالحاً مع حالة الحرب، وخلق جواً شبابياً حالماً بالمسرح، وغطى مساحات مهمة في الإعلام والصفحات الثقافية إلى عام 2000 حيث شاهدنا اختفاء المسرح خلال مسيرة بناء العاصمة بيروت ليقتصر على «مسرح المدينة» أو آخر!! هنا بدأ مسرح بيروت أي مسرح لبنان بالأفول بهدوء رغم تراكم المشاكل العربية في كل العواصم، وتقوقعت التجارب اللبنانية في خصوصية الوجع اللبناني متباعدة ومبتعدة عن محيطها، لا بل أصبحنا نجد المسرحي اللبناني المتخرج من دون ثقافة البصر المسرحي، أو التعرف على تجارب المسرحي الآخر لينحصر فهمه للمسرح بشخصه، ولنكتشف أن هذا العرض أصبح عربياً بامتياز، ومرض كل المعاهد والمسرحيين العرب! هربت تجارب كثيرة تشبه المسرح عن مشاكلها، وعاشت على أفكار مستوردة لقصص غربية لا تشبهها، واهتمت بالتسطيح على أكثر من صعيد فكري، اجتماعي، والفقر الفني من خلال الإضاءة والديكور والسينوغرافيا، ومعتمدة على جذب الجمهور من خلال تمرير الإيحاء الجنسي المباشر! «لا ابتكار في الموسيقى» كما نسلط الضوء على الحركة الغنائية, حيث أكد الكاتب والناقد الفني الدكتور «جمال فيّاض»: أن لبنان اليوم يفتقر بشكل عام إلى المواهب الموسيقية، إذ يعيش زمن القحط الموسيقي, مضيفًا: «أنه بعد طفرة الملحنين في النصف الثاني من القرن الماضي - الذين تركوا إرثاً لا يمكن أن ننساه- لا يوجد اليوم العدد الكافي من الملحنين للوفاء بما تطلبه الأذن والروح». وقال «فيّاض»: «لقد ولّى زمن الطربيّين، من ملحنين ومغنّين, ولم يأتنا الزمن اليوم بالأفضل». فعدد الملحنين الذين يقدمون لنا الموسيقى الجميلة اليوم في لبنان والوطن العربي الكبير لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. في حين ما زالت المواهب الشعرية الغنائية موجودة، ويتزايد عدد الموزعين الموسيقيين، ممن يدرسون «هندسة الألحان وزخرفتها» لكنهم لا يبتكرونها, فنجد أن الملحنين أقل من القليل. وفي المقابل هناك مئات من المواهب من المغنيين والمغنيات، لا يوجد من يفي بحاجتهم للنجاح بأغنية ولحن. وتابع: «هنا يكمن السرّ الذي جعل أغلب المطربين أصحاب الأصوات القديرة، يعودون إلى أرشيف الغناء العربي القديم، ليجدون فيه ما يلبّي رغبتهم بالغناء الجميل. وبشكل مؤكّد، يمكن الجزم بأن مرحلة الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، هي المرحلة الذهبية للغناء العربي.. فلا أغنية لبنانية بمستوى أغنية «الأخوين رحباني أو فيلمون وهبي أو زكي ناصيف», حتى مارسيل خليفة استراح وتوقّف. وحده زياد الرحباني يستمر ولو بقليل من الجهد، بعد تاريخ حافل بالأعمال المبهرة. «دور الإعلام في الحركة الثقافية» بينت الصحافية اللبنانية هناء حاج بأن الإعلام مؤثر في شكل مباشر وسريع في تطوير الحركات الريادية على جميع المستويات، بما فيها الحركة الثقافية ليس على صعيد لبنان فقط بل على صعيد العالم، كونه- مع تطور التقنيات الإلكترونية- سريع الحركة وينقل الحدث بواقعيته، علماً أن للإعلام تأثير سلبي في العديد من الأماكن، كونه لا يخضع لمراقبة. فالأحداث الثقافية على رغم كثرتها تبقى حركة تحتاج للمتابعة، على اعتبار الإعلام جزء لا يتجزأ من الثقافة اللغوية والأدبية والاجتماعية أيضاً. ومع التطور وانتشار وسائل الإعلام وتطورها وحتى وجود وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت تلحق بركب المفهوم أو المعنى الإعلامي، لا تخضع للضوابط الإعلامية الملزمة أو الضرورية للتطوير، إلى أن بات التطور الإعلامي أشبه بفوضى عارمة بعيداً عن أصول اللغة. وإذا حددنا الحركة الإعلامية نجد أن الإعلام المرئي لا يزال يحافظ على اللغة الأدبية في البرامج الثقافية على رغم قلتها على الشاشات، إذ تحولت المحطات من البرامج الثقافية إلى البرامج الترفيهية في حالة سيطرة تجارية. وتابعت «حاج»: أما الإعلام المسموع فحيّز الشعر والأدب والثقافة عامة تأخذ مساحة مقبولة تجعل المتلقي ينجذب لمضمون البرامج، خصوصاً أن الإعلام المسموع يعتمد على النبرة الصوتية واللغة السليمة ومخارج الحروف المتّقنة، ما يؤثر إيجاباً على المستمع، وهنا تكمن أهمية صوغ المعلومات وبثها في شكل يضمن وصول المعلومة بطريقة سليمة وجيدة تفيد المستمع المتلقي من جهة وتعطي الإعلام أهمية تدفعه للتطور أكثر. أما في الإعلام المكتوب فالطامة لا توصف، كون المطبوعات الورقية في حالة تقلص وقد تندثر مع تطور التكنولوجيا، ووصولها بسرعة إلى المتلقي. وهنا لبنان يمتاز عن غيره من الدول العربية بسهولة الحصول على موقع صحفي إلكتروني لأي كان وكيفما كان، ما سبب أزمة صحافة، وأزمة إعلامية جعلت اللغة العربية (ليس كل المواقع بل أكثرها) في حالة تعب وتغير مفهوم الألفاظ والمفردات اللغوية العربية، فالعديد من المواقع «ليست صحافية» ولكنها بحكم ما نسب إليها، تعمل على أن يكون لها دور في الصحافة المكتوبة وبلغة ركيكة وغير مفهومة إعرابياً ولغوياً. وفي هذه الحالة الأخيرة لا بد من ثورة صحافية تعيد القانون الإعلامي المكتوب إلى مساره، من خلال حركة إعلامية تشدد على أهمية الكتابة اللغوية العربية في شكلها الصحيح، وإلا سيقال «على الصحافة المكتوبة السلام».