في كتابه (أسرار البلاغة) يدهشك عبدالقاهر الجرجاني (471ه) بتفكيره البلاغي المغاير، الذي أخذ معه ينتقل من (تقعيد) البلاغة و (قولبتها) إلى حيث تعميقها، وجعلها خطاباً بلاغياً ذا أثر ملحوظ، وهو ما أدى بالبلاغة إلى أن تصبح على يديه أكثر تطوراً، وانفتاحاً، بل أكثر إقناعاً، وإمتاعاً، فصار للبلاغة - معه - خطابها المميز الذي بات ينأى بها عن القواعد والشواهد، وأصبح يقترب من التحليل والتعليل. لقد شهدت البلاغة مع الجرجاني مرحلة النضج، والتأسيس وفاق منهج دقيق، غير أن المتأمل في خطاب الجرجاني البلاغي يجده قد تجاوز هذا التفكير إلى ما هو أبعد، إذ نجد عنده بعض الإرهاصات النقدية لما نتعامل معه اليوم، وبخاصة عند غير العرب (النظرية التشومسكية)، ولعل نظرية النظم خير شاهد على ذلك، وقد نلمس فيها دعوة ضمنية من الجرجاني إلى ما يعرف اليوم ب(التفكير البيني) الذي يدعو إلى الجمع بين علوم اللغة متعاضدة، فضلاً عن المنطق. ثمة إرهاص آخر يلوّح به الجرجاني ضمن تفكيره البلاغي (الأنموذجي) في حديثه عن التمثيل، وأنه أخص من التشبيه في التأثير حيث يقول: «ويريك التئام عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت مجموعَين، والماء والنار مجتمعين، كما يقال في الممدوح: هو حياة لأوليائه، موت لأعدائه، ويجعل الشيء من جهةٍ ماءً، ومن أخرى ناراً». وقد يكون الجرجاني من أوائل من طرق باب (الثنائيات) ليس من الناحية البلاغية فحسب، بل من الناحية الفلسفية أيضاً، وربما يكون في هذه الإشارة سابقاً ل(دي سوسير 1913م) في ثنائياته المترادفة، و(شتراوس 2009م) في ثنائياته المضادة، وإن كان الأخيران أكثر توسعاً، وتعمقاً. وقد نجد إرهاصاً للتداولية و(الحِجَاج) عند الجرجاني، كما في إشارته إلى كلمة (حجاج) في قوله: «وإن كان حجاجاً كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر» ومثل ذلك إلماحه إلى البعد التداولي (المقامي) في حديثه عن التمثيل، وما يحدثه من وقع في النفس، وتأثير بالمخاطب، وأنه يزيد المعنى أُبّهةً، وَمَنقَبةً، ويرفع من الأقدار، وأن له مقاماتٍ مختلفةً. ولو فتّشنا في كتاب الجرجاني (أسرار البلاغة) لوجدنا فيه من الإرهاصات العديدة لكثير من مباحث النقد المعاصر التي تُطرح اليوم. * دكتور وكاتب وناقد