لم يخفِ صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية مشاعره الوطنية وسعادته الغامرة وهو يلتقي جمعاً غفيراً من أبناء محافظة الأحساء احتشدوا مساء الأحد 22 /5 في مسرح ناديهم الأدبي للاستماع إلى حديثه، فراح يستشهد بكلمة لوالده المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز -يرحمه الله- قالها لأهل الأحساء إبان زيارته لها سنة 1382ه، ليختم الأمير تركي بقوله: «انعم في جنات الخلد يا والدي، فأبناء الأحساء كما هم أبناء المملكة جميعاً باقون على العهد منذ أيام المغفور له موحّد هذه البلاد الملك عبدالعزيز -يرحمه الله-، إذا قاموا ويقومون وسيقومون بالحفاظ على هذا الكيان الراسخ وهويته الوطنية، وتحقيق ما صبوت إليه وعمل عليه جميع ملوك هذه البلاد وهو رفعة هذا الوطن وعزته ومجده». واستطرد الأمير تركي خلال الأمسية التي كانت بعنوان (تحديات الهوية والمواطنة) وأدارها رئيس نادي الأحساء الأدبي د. ظافر الشهري: «ما تشهده بلادنا اليوم من نهضة وإصلاحات هيكلية على كل المستويات في ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز -حفظهما الله- ما هو إلا تتويج لهذه المسيرة المباركة، ثم ما يقوم به صاحبا السمو الملكي الأميران سعود بن نايف وأحمد بن فهد لتنفيذ توجيهات قيادتنا الرشيدة». وتابع: «في ظل احتدام الصراعات السياسية والعسكرية والدينية في كثير من المجتمعات يحتل مفهوم الهوية والمواطنة حيّزاً واسعاً من الاهتمام، والمواطنة هي المعيار الذي تقوم عليه هذه الدول على الرغم من أن كثيراً منها لا تجسد هوية واحدة، ومع ذلك فالقاعدة هي وجود الدولة بكل عناصرها لتحقيق الأمن والكرامة والعدالة والمستقبل لشعبها، وما شهدناه خلال السنتين الماضيتين من تفشي وباء كورونا المستجد (كوفيد-19) عبر الحدود خير دليل على وحدة عالمنا اليوم، الاتجاه نحو العولمة يثير مخاوف الكثيرين في العالم الذين رأوا فيها على الرغم من بعض الإيجابيات التي تحملها (غول) يهدد الهويات الوطنية ويضعف دور الدولة القومية والوطنية». وقال الأمير تركي الفيصل: «إننا نعرف من نحن؛ نحن مسلمون وعرب ننتمي إلى أمة عريقة، إن هذه المعادلة تفرض علينا النظر إلى أنفسنا بثقة، وألا خوف على هويتنا من العولمة ومتطلباتها إذا ما عملنا على إيجاد توازن رشيد بين كوننا عرباً ومسلمين وهوية المواطنين في دول عربية مختلفة تتكامل هويتها الوطنية وتتماهى مع الهوية الكبرى، وفي الوقت نفسه فاعلون ومشاركون في عالم متكامل، ولتحقيق هذا التوازن ينبغي على مستوى الهوية الكبرى تعزيز عناصرها بالانفتاح والتسامح وترك العصبيات الضيقة أو الاعتزاز بالذات والحفاظ على مكانة لغتنا العربية وهي وعاء هذه الهوية في جامعاتنا ومدارسنا ومراكزنا العلمية وفي إعلامنا ومنازلنا، وعلى مستوى الهوية الوطنية ينبغي تعزيز الانتماء للأوطان التي بها، وإيجاد المؤسسات الوطنية لتستوعب طموحات وتطلعات كافة فئات الشعب وإشراكها في صوغ مستقبلها، وإيجاد علاقة صحية بين الدول ونخبها الحاكمة والمجتمع، ووضع السياسات الاقتصادية والتعليمية والتربوية والاجتماعية والثقافية التي ترقى بالمجتمع وتؤهله ليكون قادراً على المنافسة في هذه المجالات كافة، لا يعني أن دولنا محصنة وهويتها الوطنية في أمان.. لا، إننا وخصوصاً في دول الخليج العربية الكائنة في أكثر المناطق خطورة واستقطاباً إقليمياً ودولياً نعاني وسنعاني من تهديدات أمنية واقتصادية واجتماعية وثقافية وديموغرافية كثيرة ما لم نتدارك الوضع بسياسات حكيمة عاجلة لا تحتمل التأجيل، فموضوع الهوية وتحدياتها مرتبط بكل هذه التهديدات والخلل السكاني في بعض دولنا وخاصة الخليجية منها ما هو إلا جرس إنذار لما يحمله المستقبل من تحديات وطنية شاملة». وأضاف: «إننا مطالبون في دول مجلس التعاون بالعمل الحثيث لاستكمال عملية التكامل القائمة بيننا والسعي المتواصل لتحقيق الاندماج الكامل فيما بيننا، وفي الوقت نفسه علينا مراجعة سياستنا في كافة القطاعات بشكل جدي ليكون هدفها بناء المواطن التي ستعود فائدته على شعوبنا وترسخ هويتها الوطنية، وإذا ما استمرت السياسات التي اتبعت خلال العقود الماضية فإننا لا شك سنكون أقليات في بلادنا في وقتٍ ما وبالتالي وجودنا نفسه سيكون عرضة للخطر، فالتنمية الاقتصادية يجب أن ترتبط بالتركيبة السكانية، وهذا الأمر يتطلب رؤى جديدة وسياسات فاعلة في مجالات التعليم والتثقيف والتدريب والتأهيل ليكون مواطنونا في مستوى اقتصادات بلادهم ومنطقتهم ليستفيدوا منها وهم الأحق بها فالنفط ليس دائماً». ولفت الأمير تركي الفيصل إلى أن الإدراك يتزايد في منطقة الخليج حول أهمية موضوع الهوية الوطنية لا سيما ونحن نرى الآثار المدمرة في بلدان ومنها في بعض دولنا العربية التي لم تنجح في صياغة هوية وطنية جامعة، إذ تفتت النسيج الاجتماعي فيها بسب هيمنة هويات فرعية دينية أو طائفية أو مذهبية أو مناطقية لا تبنى على أساسها الأوطان بل تتسبب في تدمير الأوطان، وبذلك علينا أن نعض بالنواجذ على كياناتنا الوطنية الناجحة، وأن نرسخ هوياتنا الوطنية لنحافظ على المنجزات، وهذا ما نلمسه بحمد الله عند شعبنا وبذلك لا خوف على هويتنا الوطنية». واستطرد: «لقد كانت المملكة العربية السعودية وتوحدت وترسخ كيانها على إرث تاريخي عظيم جعل من شعبها ذا هوية واحدة يجمعه الإسلام، والعروبة، والانتماء لوطنه ودولته، وهو بكل تنوعاته الفرعية المناطقية والقبلية والمذهبية مرتبط بهذه المظلات الكبرى الجامعة، وقد تعايش الجميع في ظل دولة لا تميز بين مواطنيها ولكنها في الوقت نفسه لم تسمح مطلقاً بأي نزاعات مدمرة مهما كانت خلفياتها أن تهدد وحدتها ووحدة نسيجها الاجتماعي وأمنها واستقرارها، وفي هذا السياق لا ينبغي أن ننسى أنه خلال العقود الماضية استقبلت المملكة عشرات الملايين من الوافدين الذين قدموا إليها للعمل أو الزيارة، وما زال يعيش فيها أكثر من 12 مليون وافد، يتعايش الجميع بسلام ولم يؤخذ أحد بجريرة دينه أو مذهبه أو جنسيته، وهذا دليل على أن التسامح أيضاً ديدن هذا المجتمع وجزء من أخلاقه، ومهما نسمع أحياناً من اتهامات باطلة توجه المملكة بشأن التعامل مع الآخرين المختلفين فالواقع يدحضه، ولم يؤخذ أحد إلا بسبب إخلاله بالنظام العام أو بسبب العمل على زعزعة الأمن والاستقرار، كما لا تفوت الإشارة إلى أن المملكة بكل ودٍ وترحاب وتسامح استقبلت وخدمت خلال العقود الماضية مئات الملايين من المسلمين بكافة خلفياتهم المذهبية كحجاج ومعتمرين وزوار». وأضاف الأمير تركي الفيصل: «إن وطنيتنا الحقيقية ليست شوفينية أو متعالية أو متطرفة بل وطنية تقوم على الاعتدال والتسامح والتعايش والانفتاح، وهذه الوطنية تتلخص في وجدان شعبنا في الأخذ بالأسباب الثقافية والتعليمية والتربوية والنظامية، وأحسب أن هذا ما نشهده منذ انطلاق رؤية خادم الحرمين الملك سلمان وسمو ولي عهده الأمين محمد بن سلمان». وتابع: «إن التسامح والاعتدال والوسطية سمات طبيعية في مجتمعنا، والدولة منذ قيامها على يد المغفور له الملك عبدالعزيز -يرحمه الله-، ومن خلال أنظمتها وتشريعاتها وسلوكها داخلياً وخارجياً لم تبتعد عن هذه المبادئ الإسلامية الراسخة إلا أن ذلك لم يمنع أن شهدنا من ظهور بعض النزعات والجماعات والاتجاهات الفكرية والدينية والمذهبية المتطرفة، التي كانت ستأخذ وتقود مجتمعنا نحو وضع يعاكس طبيعتنا وما نحن عليه، ولو لم تكن الدولة بقيادتها الحكيمة عبر العقود واعية لخطورة هذه النزاعات المدمرة ومواجهتها لكنا في وضع مختلف تسوده نزاعات الفرقة والعصبية والتطرف». وقال الأمير تركي الفيصل: «لقد أدت ممارسات بعض أصحاب هذه النزعات إلى تهديد أمن واستقرار البلاد والإساءة لمكانتها الدولية والإقليمية، وأظهرتنا كأننا بعيدين عن مفاهيم ومبادئ التعايش والتسامح، وعليه فقد بادرت المملكة أولاً بالمواجهة الأمنية المباشرة مع قوى الإرهاب والتطرف من أي مذهبٍ كان، وفي الوقت نفسه بالمواجهة الفكرية التي تنزع أية شرعية دينية أو مجتمعية لهم». وأضاف: «لقد قامت المملكة بمشروعات ومبادرات تاريخية تعزز قيم الحوار والتسامح والتعايش داخلياً وخارجياً، وجميع هذه المبادرات والمشروعات تقوم على مبادئ الوسطية والاعتدال التي هي مبادئ ديننا الحنيف، التي يقول عنها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -أطال الله عمره-: (إن الاعتدال ليس كلمة تقال أو وصفاً لموقف أو شعار براق يطلق، وإنما منهج شامل والتزام بمبدأ يحقق مصالح عامة تهدف إلى الخير والنماء)، ثم يتبع ذلك صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بقوله: (اليوم لم يعد التطرف مقبولاً في المملكة العربية السعودية ولم يعد يظهر على السطح، بل أصبح منبوذاً ومتخفياً ومنزوياً ومع ذلك سنستمر لمواجهة أي مظاهر أو تصرفات أو أفكار متطرفة). وأشار إلى كلمة عن الاعتدال قالها م. نظمي النصر، وهو مهندس من أهلنا في هذه المنطقة، عندما تسلم جائزة الاعتدال من صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين وأمير مكة، وأشار الأمير تركي إلى دور العائلة في تربية أبنائهم وبناتهم، وهو دور لا يقل أهمية عما تبذله الحكومة لضمان وسلامة واستقرار واعتدال الأبناء. وفي ختام المحاضرة سلم د. ظافر الشهري هدية تذكارية لسموه الكريم، كما قدم صاحب السمو الأمير عبدالعزيز بن محمد بن فهد بن جلوي درعاً تذكارياً. الأمير تركي يتسلم تكريماً من رئيس أدبي الأحساء حضور كبير شهد الأمسية الوطنية