تمضي أيام عمري وعمر الزمن، وتبقى ذكرى موت أبي هاجساً مريراً يدق ناقوس حياتي، ذكريات لا تزال ترسّباتها في أعماقي، ما كنت لأكتبها لولا الذي أيقظها فأبكاني.. لقد مات أبي وتوارى تحت الثرى فبكيت فراقه، وفقدت وجوده، وعذوبة مناداته، فأقبلت بوجهي على الأحزان أجوب خضمها صامتاً؛ يحتويني الاحتراق، ويثقلني الانكسار، لقد كان أبي هو الدنيا والنعيم الذي يملأ شعوري، كان هو ذروة كل سعادتي، فيا لهفي عليه ويا عزاء نفسي والموت ينزعه، لكن الحياة علمتني الشموخ عند الشدة، والصمود في وجه المحن، علمتني ألا أستعين إلا بخالقي، ولا أبوح إلا إلى قلمي. نعلم جميعاً أن الأب هو الحياة؛ وفقدانه يعني الموت على قيد الحياة، ولكن لا أحد يعلم معنى الفقدان الحقيقي، أن تنتقل نصف روحك، وأن تصعد إلى السماء، وأنت هنا بلا حول تجاهد على أن تبقى سليماً في هذا العالم، وحيداً، لا يصبح لشعورك أي معنى، تكف عن انتظار الجميع، لا تأبه لشيء، ولا تشعر بشيء، فكأنك اعتقدت أن كل ما جرى كان حلماً، لا تدرك إلا شيئاً واحداً أنه هو من دُفن ولكنك أنت من مات.. لذلك على من يملك أباً فليحافظ عليه؛ فوالله إن الشوق بعد الممات قاتل.. قبل ثلاثة أعوام توفي والدي، وذلك العام أسميته عام الحزن، حيث فقدت ثلاثة في ستة أشهر «والدي وعمي وخالتي» رحمهم الله جميعاً، فمن المؤلم أن نكتمَ مشاعرنا، أن نكبتها، أن نخبئها، أن نكذب على أنفسنا أننا سعداء ونحن عكس ذلك تماماً.. أبتي لساني في رثائِك خانَنِي ما طاوعَ القلبَ الجريحَ لساني لو طاوعَ النفسَ اليراعُ لمَلَّني بحرُ المِداد وتاه في شُطآني ماذا أقولُ؛ وهل كلامي مُنصِفٌ في حقِّ قُطبٍ راسخٍ رَبَّاني لو قلتُ دهرًا ثم دهرًا لم أكُن أنصفتُ مِنه لقاءَ ما رَبَّاني سلاماً على من يشتاق له قلبي، سلاماً على من يحن له فؤادي، سلاماً على من رحل عن الدنيا ولكنه لم يرحل ساعة مني.. فوالله إني لأشتاق لحديث يجمعنا، ولابتسامة لها ألف معنى، فقد تمزق قلبي من الفراق وأهلكني الاشتياق. رحلت يا والدي عن هذه الدنيا؛ لكنك ما زلت حياً فينا.. وأعدك يا أبي أني سأذكرك دوماً، وأحدث أبنائي عنك باستمرار، فأنت لست على قيد الحياة؛ لكنك ستبقي حتماً علي قيد الفؤاد.. والدي؛ لي في غيابك قصة وجع لا تنتهي، رحمك الله..