مع تسليمي وإيماني بقضاء الله وقدره، لم أصدق حتى اللحظة أن أبي قد مات؛ فمنذ رحيله وأنا أعيش في صراع بين عاطفتي الشديدة وصبري الذي أجده مهزوماً أمام شوقي وحنيني لذلك الأب العظيم. ففي مثل هذا اليوم قبل عامين رحل أبي، رحل بلا عودة تاركاً الأهل والأحباب، ذهب لملاقاة رب رحيم.. رحل وترك لي ذكريات لا تموت، رحل وترك لي الأشواق والحنين.. غادر أبي الدنيا، لكنه لم يغادر ذاكرتي. من أصعب الأمور على الإنسان أن يفقد والده، فالأب هو السند في الحياة؛ ومن يفقده فكأنه فقد حياته وفقد المعين والسند، فلا يوجد أحد يقدم لك العون ويكون سنداً حقيقياً لك سوى الأب بعد الله؛ فإذا رحل فقد خسرت كل شيء، وتبقى غصة فقدانه مدى العمر.. ذكرى رحيله تتجدد باستمرار، تقطع قلبي وتفطره شوقاً، كم أتمنى لو عادت بنا الأيام، فقد صبرت دون جدوى، ففقْد والدي جرحَ قلبي جرحاً لن يتداوى، وأعجزَ لساني أن يتكلم وقلمي أن يكتب. نعلم أن الموت سنّة الحياة، وأنه علينا حقّ كما هي الحياة؛ ولكنه يترك في داخلنا الألم والحسرة على فقدان أشخاص يعزّ علينا فراقهم.. يابوي رحت وتركت نفوس تعبانه وقلوب تنبض بحبك في مآسيها البيت يصرخ يهز الصوت جدرانه وين الذي سيرته زانت معانيها والدي الغالي؛ برغم كونك رحلتَ من الدنيا إلا أنك لم ترحل مني فما زلت تسكنني، وما زلت أراك في كل صوب وناحية.. رحلتَ لتخبرني أن سعادة الدنيا زائلة، رحلتَ لتخبرني أن دعاءك لي انتهى وابتدأ دوري بالدعاء لك، رحلتَ قبل أن أرتّب لك كلمة شكراً وأرد لك الجميل، رحلتَ قبل أن أكتفي من رائحتك وتقبيل رأسك، قبل أن أخبرك أني أحبك. دائماً أتذكر ذلك اليوم الذي رحلتَ فيه.. أتذكره جيداً فهو ليس بعيداً.. يجتاحني الضيق كلما فكرت أنك رحلتَ إلى عالم آخر.. شعوري بعدم وجودك كشعور شخص جاء من عالم آخر.. أشعر أنني أنا الذي رحلت؛ لا أنت.. فلم يعد العالم كما كان بعد رحيلك؛ كل شيء أصبح كئيباً مظلماً.. والدي الغالي؛ ما زال عزاؤك قائماً بداخلي وكأنك اليوم فارقتني.. أستحضر كلماتك، نظرة عينك التي كانت تعبر عما بداخلك من غير أن تتحدث، حنانك وعطفك، أنظر إلى صورتك وأتحدث معها فيفيض الدمع شوقاً لرؤيتك ويخفق القلب ألماً لفراقك.. ولكنني لما وجدتك راحِلاً بكيتُ دماً حتى بللت به الثرى والدي الغالي؛ لي في غيابك قصة وجع لا تنتهي، رحمك الله وأسكنك فسيح جناته.