الدين الإسلامي ليس ديناً للرهبنة، بل مشروع حياة متكاملاً. ومن أبرز دلالات عالميته شعيرةُ الحج التي لا تعترف بالحدود ولا العرق ولا اللون، وقد أولت رؤية المملكة 2030 هذه الشعيرة مكانة بارزة. إذ تنص الرؤية في (برنامج خدمة ضيوف الرحمن) على أنها ستضيف لزائري المشاعر المقدسة أبعاداً لم تتوافر لأسلافهم، وأنها تهدف إلى "إثراء وتعميق تجربتهم.. وتحقيق رسالة الإسلام العالمية". ومن هذا المنطلق فإني أقترح على وزارة الحج أن تقيم بالتنسيق مع وزارة الثقافة، مؤتمراً عالمياً (علمياً ثقافياً) على هامش موسم الحج من كل عام، بحيث يكون الإعداد له قد أُنجز بعناية قبل الموسم بأشهر. ومن أهم عناصر التنسيق معرفة أعلام الثقافة العرب والمسلمين، عن طريق السفارات السعودية وقنصلياتها في العالم، الذين سجلوا لموسم الحج، وحصلوا على الموافقة، علماً أنه يمكن دعوتهم للحج وللمؤتمر الثقافي، والتنسيق معهم لإعداد أوراق ومواضيع تتناسب مع الموضوع المعلن، تفادياً للعشوائية ومفاجأة الضيف بطلب لم يكن مستعداً له. كما يمكن أن يكون موقعه خارج حدود الحرم ليستطيع غير المسلمين حضوره، علماً أن حضور غير المسلمين واطلاعهم عن كثب على فعاليات الحج وعلى الجهود الحكومية المبذولة للموسم والحجاج سيكون له أثر كبير عليهم وعلى الصورة التي سينقلونها لغيرهم. كما ينبغي، من وجهة نظري، أن يكون المؤتمر نوعياً لا تقليدياً، أما إن كان مجرد نسخة مكررة من الأنشطة الثقافية المعتادة في الوطن العربي فلن تكون لمناسبة الحج ميزة تستحق العناء؛ جهداً ومالاً. ومن مظاهر النوعية أن يتناسب الملتقى مع عالمية الحج، فيركز على ثقافات الشعوب الإسلامية والأقليات المسلمة في جميع دول العالم. ويسعى لإبراز ما كتبه العرب وغيرهم من الرحالة والمستكشفين، المسلمين وغير المسلمين، عن تلك الشعوب والأقليات. وكذلك الرجوع لما كُتب عن تلك الشعوب في وثائق الدول الأجنبية التي حكمتهم. يناقش المؤتمر تاريخهم، وأنماط حياتهم، وجماليات آدابهم، وخصائص ثقافاتهم وتأثيرها في محيطها غير المسلم، ولا بأس بالإشارة إلى مصاعبهم على أن تكون في أشكال فنية (أدب أو رسم أو نحت.. إلخ) لا على هيئة شكاوى تقريرية عن معاناتهم. كما يمكن أن يشارك مندوبون من الشعوب التي كانت مسلمة أو التي حكمها المسلمون يوماً ما أو حكموا جزءاً منها، والتي تنظر إلى الحقبة الإسلامية بوصفها جزءًا مهماً من تاريخها الثقافي، مثلاً: إسبانيا والبرتغال ومالطا وأرمينيا وجورجيا وإيطاليا (صقلّية) وقبرص وبعض دول البلقان. مثل هذا النشاط الثقافي قد يحقق نوعاً من تعريف المسلمين ببعضهم، وهذا أحد أهداف الحج السامية، ويُضيف لمناسبة الحج بعداً ثقافياً وإنسانياً وعالمياً مميزة؛ إذ سيتجاوز تأثيره عالَم المسلمين إلى غيرهم؛ لأن كثيراً من المسلمين يعيشون في بلدان غير مسلمة. كما أنه سيوجِد قيمة مضافة للحجاج المثقفين الذين سيشعرون بنوع من الامتنان لهذه الالتفاتة، ويجعل مواطنيهم يعودون لأوطانهم بشيء ذي قيمة؛ إذ يرون أنهم كانوا سفراء لثقافاتهم القومية وممثلين لها أمام مؤتمر يحضره مئات الآلاف، مؤتمر لا يمكن أن يتوافر في أي مكان في العالم ولا تحت أي ظرف غير هذا المكان وفِي هذا الظرف. من المقترحات التي تجعله نوعيًّا أن يُخصَّص كل موسم لأمة أو شعب أو أقلية، وتكون دولة من دول ذلك الشعب أو تلك الأقلية هي ضيف الشرف، سواء كانت بلداً مسلماً أم غير مسلم. وهذا هو ما يجعله مؤتمراً دولياً بحق. فمثلاً يكون ضيف الشرف مرة نيجيريا، وأخرى طاجيكستان، وثالثة بريطانيا، ورابعة اليابان، ثم الهند، وبعدها باكستان، ثم المالديف، ولاحقاً أستراليا، ثم كوريا فماليزيا.. وهكذا. ومن المعلوم أن ممثل الدولة غير المسلمة سيكون مسلماً من رعاياها، أو يكون غير مسلم فيما إن كان مقر المؤتمر خارج الحرم (أطراف مكة، أو في جدة مثلاً). وعند عدم وجود موضوع كافٍ لأقلية ما أو شعب صغير أو مغمور، يمكن أن يُضم له شعب آخر أو أقلية أخرى، كأن نقول مثلاً: إن ضيف الشرف لهذا العام هو شعوب جزر الكاريبي، ليشمل عدداً كبيراً من سكان الجزر المتناثرة التي تحوي ثقافات متشابهة لكنها تتميز بخصائص معينة. أو قارة أستراليا لتشمل نيوزيلندا وجزر فيجي وغيرهما، أو جزر المحيط الهندي لتشمل موريشوس وسيشل والمالديف... وهكذا. تشعر كثير من الأقليات الإسلامية في العالم أنها منسية من شعوب العالم الإسلامي، وأن كثيراً من المسلمين لا يعلمون أنهم يشتركون معهم الدين والثقافة الإسلامية، وإن تخصيص تلك الأقليات والشعوب بمؤتمر في أقدس مدن الإسلام، ومهبط رسالته، وجوار بيت الله العتيق، وفي بلد رسول الإسلام وصحابته الأولين؛ وبرعاية مباشرة من الدولة التي تحمي الحرمين الشريفين، إن هذا سيكون مفخرة لا تقدر بثمن، وسيكون داعماً معنوياً لصمودهم في وجه المتغيرات الأخرى، وسيُشعرهم بأنهم في القلب من عالمهم وأمتهم، كما سيلفت نظر المسلمين إليهم، ويُعرّفهم عليهم؛ إذ إن معظم المسلمين لا يعرفون مثلاً أن أكثر من ثلث سكان دولة سورينام الواقعة في أميركا اللاتينية مسلمون! كما أن معظمنا لا يعلم أن أجداد مسلمي بولندا الأوروبية وصلوها قبل أكثر من سبعمئة عام! جدير بالذكر أن ما كُتبَ عن المسلمين العرب وغيرهم عبر التاريخ يمثل منجماً هائلاً لن ينضب إلا بعد عشرات المواسم. وفي حال وُجِد أن هناك شُحّاً في جانب معين عن شعب ما فيمكن أن يكون البديل هو الحديث عن ثقافته الحالية تحليلاً لأبعادها، وربطاً لها بمحيطها، والنظر فيما أضافه الإسلام لذلك المحيط وكيف تمازجت الثقافة المحلية (في الفلبين وتايلند مثلاً) مع المنظومة الفكرية الإسلامية. إن التعارف بين أبناء أمة الإسلام يعد من أهم أهداف الحج، وإن مؤتمراً على هامش الموسم، يدرس أحوالهم ويناقش قضاياهم ويتحدث عن ثقافاتهم، سيكون له أثر عميق عليهم، وصدى عالمي يجعل الأنظار تلتفت إليهم.