تأتي احداث الشغب الأخيرة في فرنسا لتبرز معها مشكلة الأقليات في أوربا ومن أهمها الأقلية المسلمة وقد حاول البعض ربط هذه الأحداث بالأقلية المسلمة هناك ونحاول في هذه المقالة عرض واقع ومشكلات الأقلية المسلمة في أوروبا حيث لا يخفى أن لأوروبا مكانة خاصة سواء في علاقاتها التاريخية مع المسلمين أو في طبيعة علاقتها المعاصرة لاسيما اليوم حيث أصبح الإسلام في أكثر من دولة أوروبية الدين الثاني بعد المسيحية، وإذا تجاوزنا العلاقة التاريخية القديمة للمسلمين بأوروبا ابتداء من عصر الرسالة مروراً بالفتوحات الإسلامية وانتشار الحضارة العربية والإسلامية، إذا تجاوزنا ذلك إلى العصر الحديث نجد أن الأقلية المسلمة في اوروبا تنقسم إلى قسمين حسب انقسام اوروبا الى شقين غربية وشرقية، فالأقلية المسلمة في أوروبا الشرقية في الغالب تنتمي في أصلها إلى البلد التي تقيم فيه، فهي بهذه الاعتبار تمثل مجموعات من مواطني تلك الدول ولكنه مع ذلك يمثلون أقلية حسب الاصطلاح العلمي، اما الاقلية المسلمة في اوروبا الغربية فيغلب عليها انها مجموعة من الوافدين من الدول الإسلامية المتعددة مع ملاحظة اضطراد العلاقة بين البلد الآتي منه الوافد من الشرق والبلد الوافد إليه في الغرب فمثلاً الوافدون من البلاد التي كانت مستعمرة من فرنسا فإنهم يفدون إليها، والذين كانت بلادهم مستعمرة من المملكة المتحدة فإنهم يفدون إلى انجلترا وهكذا، نسبة لروابط وعوامل ثقافية واقتصادية معروفة وبشكل عام فان الاقليات المسلمة في اوروبا تتشكل من فئات أربع وهم: 1- الدارسون. 2- الباحثون عن العمل. 3- المسلمون من سكان البلاد الأصليين. 4- اللاجئون السياسيون. أما الدارسون فقد كانت ظروفهم مجيئهم إلى أوروبا مرتبطة بحب الاستزادة من حصيلة التفوق العلم الذي تميز به الغرب، وكانت هذه الإقامة قد بدأت قبل الحرب العالمية الثانية واستمرت الى اليوم مع تفاوت في نسب القادمين إلى أوروبا لتلقي العلم الحديث والدراسات العليا من وقت إلى آخر. أما الباحثون عن العمل فقد جاءوا إلى أوروبا عندما ظهرت حاجة أوروبا الصناعية إلى العمالة الرخيصة فوجدت في الدول النامية بغيتها، وفي ذات الوقت كانت العمالة في الدول الإسلامية النامية في حاجة إلى المال، ومن هنا نشأت الرحلة إلى أوروبا لطلب الرزق وعندئذ وجدت في طلب أوروبا للقوى البشرية الفائضة عن حاجتها منقذاً لها من ناحيتين، تشغيل اليد العاملة حتى لا تواجه في عجز ذلك من ناحية: وموارد مالية يحقن بها الاقتصاد بما يقتصده العمال من اجورهم ويحولونه إلى ذويهم في أوطانهم من ناحية اخرى فكانت سياسة الدول الاسلامية المتخلفة اقتصادياً انها تشجع على الهجرة باعتبار انها تحل بعض المشاكل التي تواجهها. اما المجموعة الثالثة فهي مجموعة المسلمين من سكان البلاد الأصليين الذين هم في الأصل من ذراري المسلمين الذين دخلوا الإسلام منذ عصور الفتح الإسلامي لأطراف أوروبا سواء من المسالك الشرقية أو المسالك الجنوبية. أو الذين دخلوا الإسلام حديثاً بسبب مجهودات الوافدين من المسلمين إلى البلاد الأوروبية، وكذلك الدعاة الذين يقومون بالدعوة إلى الله في تلك البلاد، أو عن طريق المطبوعات المترجمة التي تدعو إلى الإسلام. كما أن بعضهم أعتنق الإسلام عندما تيسرت له الإقامة في بلاد المسلمين فتأثر بهم. وكل هؤلاء يعانون بشكل مباشر وعميق من طمس هويتهم وتذويب شخصيتهم في شخصية بلدهم غير المسلم من ناحية العادات والتقاليد وتمثل قيم الجماعة وموازينها ونظرتها للحياة، وأخطر ما في هذا هو الانحراف الاعتقادي الذي قلما ينجو منه أحد في ظل الاستلاب الفكري خاصة في دول أوروبا الشرقية في عصر الهيمنة الشيوعية. أما مجموعة اللاجئين السياسيين من أبناء الدول الإسلامية، فهؤلاء لجأوا إلى أوروبا لخلافاتهم مع أنظمة دولهم سياسياً، وهم على كل حال جزء من الاقلية المسلمة في دول المهجر يعانون ما تعانيه الأقلية المسلمة من التعرض للحياة في مجتمع غريب عن تصوراتهم وقيمهم واعتقاداتهم. والنسبة العديدية في أوروبا تدل على ان المسلمين يشكلون إحدى أكبر الأقليات عدداً وأكثرها نشاطاً من الناحية الدينية في القارة الأوروبية. وبينما نجد ان معظم السكان المسلمين الغربيين هم من الشباب داخل أوروبا، بالإضافة إلى فروق في الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات المسلمة هناك. ففي بريطانيا تأتي أغلبية المسلمين من شبه القارة الهندية، أما في ألمانيا فالغالبية العظمى تركية المنشأ، وفي فرنسا حيث توجد أربع وعشرون جنسية مسلمة فإن معظم المسلمين من شمال افريقيا وبقية الدول الأفريقية، والمهاجرون المسلمون إلى أوروبا هم من الطبقة العاملة ومن البيئات الريفية، ونتيجة لذلك فإن المجتمعات المسلمة في أوروبا وبخاصة في بريطانيا وفرنساوألمانيا تتضمن بصورة عامة مهاجرين فقراء مهرة أو غير مهرة حاولوا خلق نسخ عن بيئتهم الريفية في البلاد التي يقيمون فيها حديثاً، أما المستوى الثقافي والتنظيمي لهذه المجتمعات فهو متواضع، وقد ظهرت مشكلات جدية في التواصل حين تفاعلت مجتمعات الأقليات هذه مع المجتمعات المضيفة. وتجمع الدراسات المتعلقة بالأقليات المسلمة على أن هذه الأقليات تواجه مشاكل ضخمة سواء كان ذلك في المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو العقدي أو محو الهوية او التصفية والمذابح كما حدث حالة البوسنة والهرسك وإقليم كوسوفا، كما يواجه المسلمون في أوروبا التمييز العنصري البغيض تقول دراسة لأحد الباحثين أن المسلمين في أوروبا يواجهون عقبة خطيرة في تقدم مجتمعاتهم وتطورها، وهي عقبة التمييز العنصري، حيث توضح جميع الدلائل المتوفرة أن التمييز العنصري الواسع الانتشار يمثل عاملاً اساسياً يساهم في ارتفاع نسبة البطالة بين الأقليات العرقية وفي نوعية الأعمال الضئيلة الدخل التي يمارسونها، ففي بريطانيا هناك ثلاثة وأربعون بالمائة من الباكستانيين والبنغلادشيين عاطلون عن العمل، بينما نجد في بعض مناطق لندن أن نسبة العاطلين عن العمل بين الأقليات العرقية بمن فيهم المسلمون هي نحو ستين إلى سبعين في المائة، ونجد النموذج ذاته في مدينة برادفورد التي يعيش فيها عدد كبير من السكان المسلمين. اما الذين يعملون فلديهم مهن ذات أجور ضئيلة ومرتبة اجتماعية أقل من العمال البريطانيي المنشأ، وقد بينت الأبحاث ان المسلمين يواجهون تمييزاً عنصرياً حتى في الوظائف الإدارية وفي بعض المهن مثل الطب والتعليم. وفي دراسة حول الأطباء تبين أنه في حين يشكل الأطباء المسلمون الذين يعملون وراء البحار ثلث عدد جميع اطباء المستشفيات في إنجلترا وويلز، إلا أنهم ينحصرون في المراتب الدنيا وفي اختصاصات غير مفضلة، وتبين الدراسة أيضاً أن هؤلاء الأطباء ينتظرون مدة اطول من أجل ترقيتهم، وعليهم تقديم طلبات أكثر من زملائهم البريطانيين لشغل المناصب، وقد وجدت دراسة اخرى ان المعلمين من المسلمين قد وضعوا في اسفل السلم التصنيفي بشكل غير متكافىء مع زملائهم البريطانيين، وأظهرت دراسة جرت حول الذين يتخرجون في الجامعات انه يصعب على المتخرجين من الأقليات العرقية الحصول على عمل مقارنة مع زملائهم البريطانيين الذين يماثلونهم في الكفاءات. وهكذا نجد الغرب ينظرون إلى المسلمين في دياره على أنهم وجود غير مرغوب فيه، والغربيون في تصورهم أن الصدام بين الإسلام والغرب لابد منه، ففي سنة 1993م كتب مدير معهد الدراسات الإستراتيجية بجامعة هافارد «هانتينجتون» كتابه عن حتمية الصدام بين الحضارات وزعم ان الصدامات العسكرية المستقبلية ستحدث على طول الشريط الواقع بين المناطق الحضارية وخاصة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. فالذهنية الغربية بل الاستراتيجية الغربية صراع وصدام لا تعايش ووئام، وفي هذا النحو المشحون بالكراهية والتربص كيف نتخيل أن تعيش الأقليات المسلمة في دول الغرب آمنة ومطمئنة. وعدد المستشرق الألماني جيرونوت روتر، أسباب خوف الغرب من الإسلام، وكان مما ذكر من هذه الأسباب، هجرة أعداد كبيرة من المسلمين إلى بلاد الغرب، قال: إن هجرة أعداد كبيرة من المسلمين والتي شجعها الغرب في البداية، حيث يمثل الأتراك في ألمانيا، ومواطنو شمال افريقيا في فرنسا غالبية العمال المهاجرين وطالبي اللجوء السياسي. أدت هذه الهجرة إلى تصاعد موجة العداء تجاه الأجانب، وهو عداء موجه في المقام الأول ضد المسلمين ويركز على رموزهم الإسلامية، كما حدث في مسألة الحجاب. وإذا نظرنا إلى الوجه الآخر لواقع الأقلية المسلمة في اوروبا وهو ما يتعلق بالأقلية المسلمة ذاتها يبرز للمتأمل في الخريطة العامة للمشكلات التي تعاني منها الأقلية المسلمة اليوم في أوروبا إن أبرز هذه المشكلات تكمن في: 1- ضعف التصور الاعتقادي وضآلة الفقه في الدين. 2- عدم وجود مرجعية إسلامية يلجأ إليها المسلمون هناك في الملمات والأزمات حيث يلجأون إلى الإجتهادات الفردية التي ينقصها التمحيص العلمي والمعرفة بأصول الاستدلال وقواعد الاستنباط. 3- نزوح الحزبية الدعوية أو ما يسمى (بالإسلام السياسي) إلى مجتمع الأقلية من البلدان الإسلامية مما أدى إلى غلبة الولاء الحزبي على الولاء الإسلامي العام، كما أدى إلى عدم الاندماج الإيجابي بين الأقلية والمجتمع الذي تعيش فيه وخلق مزيداً من النفارة بينهما، وإلى تعميق الازدواجية الحضارية والثقافية في مجتمع الأقلية، وهذه مشكلة تؤثر تأثيراً كثيراً في تعاطي الأقلية مع الثقافات الأخرى سلباً وإيجاباً. 4- عدم وجود جماعات ضغط مسلمة في المجتمع الأوروبية تمثل كافة أطياف الأقلية ولا تمثل ايدلوجية معينة تعد من أبرز المشكلات في حياة المسلمين السياسية، فإن ضعف هذا الجانب يهدر الكثير من الحقوق التي يمكن أن يحصل عليها المسلمون إذا كانت لها جماعات ضغط سياسي تعبر عن همومهم وتدافع عن حقوقهم. 5- يعاني أبناء الأقلية المسلمة من مشكلة العنصرية فإن الكثير منهم يواجه ضغطاً نفسياً قاسياً من جراء التعامل العنصري في بعض المجتمعات الأوروبية. 6- التشويه الذي يحدثه بعض المنسوبين إلى الإسلام على الصعيد السياسي والأمني من المنتفعين أو من المنتمين إلى أيدلوجيات تنحو إلى التطرف على اختلاف درجات التطرف لدى هذه المجموعات، والتي تؤدي في أحسن أحوالها وأقلها تطرفاً إلى تأصيل روح البغضاء والتواصل السلبي مع محيط الأقلية، وبالتالي قتل الدوافع الإيجابية والسلوك المحمود لديها، وفي ذات الوقت يؤدي ذلك إلى ضعف التناول السياسي للقضايا المحيطة بالأقليات وغيابها عن مجتمعاتها وعدم استفادتها من الفرص التي تتبعها نظم الانتخابات في البلدان الأوروبية والحقوق الدستورية والقانونية للأقلية التي لو استخدمت واستثمرت استثماراً منظماً ومدركاً للواقع وظروفه السياسية لكان وضع الأقلية في حال أحسن مما هم عليه الآن، ومما يؤسف له فإن القلة ممن يهتمون بهذا الجانب يقع بينهم خلاف شديد وتشرذم من الانتماء والتوجه السياسي، فالأقلية المسلمة أمام هذا الوضع إما معرض عن الاستفادة من الظروف المتاحة أو داخل فيها بغير تنسيق وتعاون أو تعامل أو تكامل مع الآخرين من أبناء الأقلية. 7- تدني المستوى الاقتصادي لدى غالب ابناء الاقلية المسلمة وعدم وجود مؤسسات اقتصادية واستثمارية تخدم أبناء الأقلية وتساعد في جسر الهوة المادية بينهم وبين المجتمع الذي يعيشون فيه، وتدني المستوى الاقتصادي لأبناء الأقلية يضعف مواجهتهم للمغريات سواء أكان ذلك على المستوى السياسي أو الأمني أو السلوكي. 8- ضعف التواصل بين أبناء الأقلية وبلادهم الأصلية وتركز هذا التواصل في الغالب على السلبي كنقل المشكلات الموجودة في البلد الأم إلى المجتمع الجديد، كما أن سوء إدارة أموال التبرعات غير المنظمة التي ترد من العالم الإسلامي إلى الأقليات يزيد من إشكاليات الأقلية المسلمة في أوروبا ومن أهم اسباب سوء الإدارة هذا الضعف الفني والتقني الإداري لدى أبناء الأقلية أو الضعف الخلقي والانحراف السياسي، مما يجعل هذه الأموال توجه إلى غير وجهتها الصحيحة مثلاً قد توجه إلى وجهة تؤثر سلباً على وضع الأقليات هناك. والدول الأوروبية والأقلية المسلمة مطالبة على حد سواء بجسر الهوة بينهما وذلك بتحقيق الازدواج الايجابي للأقلية المسلمة هناك الذي يجعل أبناء الأقلية عناصر بناء في المجتمع الأوروبي لا عناص هدم مع احتفاظهم بشخصيتهم وهويتهم الإسلامية، وأن لا تتعامل الدول الأوروبية بعقلية الصراع والعراك مع الأقلية المسلمة. وهذا لا يتأتى إلا من خلال عمل مدروس ومنظم ومخطط وفق خطة زمنية تسهم في رفع مستوى الأقلية المسلمة في أوروبا سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ودينياً من خلال وجود مؤسسات متخصصة قادرة على استيعاب مشكلات هذه الأقليات، ومن خلال إلحاق أبناء هذه الأقليات بالجامعات والمعاهد المتخصصة في أوروبا أسوة بأقرانهم في تلك البلاد، حيث أن التعليم والتدريب هو السبيل الأمثل إلى فرص العمل الجيدة، وبالتالي تحسين وضع الأقلية وجعلها عنصراً فاعلاً في المجتمع لا عنصراً هامشياً أو ثانوياً، كما أنه من الضروري تنقية المؤسسات الثقافية والدينية والتعليمية الإسلامية في أوروبا من العناصر المؤدلجة والتنظيمات المتطرفة لضمان استمرار هذه المؤسسات في خدمة الأقلية المسلمة وفقاً لتعاليم الإسلام الصحيحة ومرتكزات الحضارة الإسلامية التي تدعو إلى البناء والتنمية والتعايش مع الآخر والحوار معه لا الصدام والعراك.