«الغائب الحاضر» عبارة يستحقها من حضوره مستمرًا وهو غائب، قد ترك من الأثر المفيد له بصمة ومن بعد رحيله شمعة وفيمن بعده ذكرى تتجدد، فمن الشعراء من يستحق ذلك عن جدارة لما قدم وما لذكراه نصيب كبير من ذاكرتنا، فمنهم راشد الخلاوي، الشاعر الذي فاز وحاز هذه الميزة لحضوره رغم بعد زمنه نسبيًا، فهو في كل مجال يحضر له بيت من الشعر أو أكثر، إن جئنا إلى الفلك أو جئنا للصدق والأصدقاء أو جئنا للأخلاق والدين أو للتقوى والإيمان أو للحكم والسلطان والإدارة وحفظ الحقوق وصد العدوان أو الإشادة بالمبادئ ومدح النبي أو الحرص على كل ما هو زكي.. هذا الشاعر الذي لا تجد في شعره ما ينتقد، بل تتهم عقلك فيما لو ظننت أنه قال قولاً فيه ما يعاب؛ لأن راشد الخلاوي صاحب عقل وثقل وحكمة وبعد نظر وإيمان وثقة. وفي الوقت نفسه لم يقدم قصائده لمحاباة ولا لمباراة ولا لمجاراة هذا أو ذاك أو لشهرة، ولا لكي يعلو بشعره على شاعر معاصر له يتنافس معه في الإبداع أو الفوز بسباق الألقاب فيطرب لانتصار له أو لهزيمة لغيره. كما أن انتشار شعر الخلاوي وسلامته من أخطاء النقل والرواية إلى حد كبير يعد من التوفيق، رغم كون الخلاوي (خلاوي خلا) وفي الصحاري والرحلات والتنقل، وإلا فما يقال في معزل غالبًا يفقد أغلبه، عكس من يقول الشعر في المجالس وبين الحاضرين ويتسابق الرواة على التحلق حوله وتدوينه ونشره. إن البعد لراشد الخلاوي 500 عام في عمق التاريخ وفي عمق الصحاري لم يبعده عن الحضور ولم يغيبه عن ذاكرة من جاء بعده، فله في الصيف والشتاء قول وله رؤية حول المواسم، وعند اشتداد البرد وتقلب الطقس فنستشهد بشعره وعند كل طالع وعند تبين الثمار وعند نضجها وتعدد الأسقام والأوبئة في الأبدان والثمار وبين الفصول، وفي مجال النصح والتمسك بالقيم وعند التأكيد على حسن الخلق وعدم الاغترار بالدنيا، وفي مجال السلم والحرب واختيار الصديق والتعامل مع الناس والمال والاهتمام بأيام العمر والالتفات للنهايات والتنبه لها.. إلخ. فالغائب الحاضر عبارة تعد ميزة له ما نافسه أحد من الشعراء فيها، وإن اقترب منه بعضهم لكنه يبقى متفردًا في عطائه وما ذلك إلا لشيء واحد والله أعلم هو الصدق فيما يقول والإخلاص فيما قال ونظم. كما قال: مثايل لابد الروى تستفيدها لا أمسي غريم الروح للروح صايد لعل الذي يروونها يذكروني بترحيمة تودع عظامي جدايد نعم استفاد الناس من مثايل وأشعار الخلاوي، وهناك كثيرون يذكرونه ويترحمون عليه بعد هذه المدة، اللهم ارحم راشد الخلاوي ومن روى عنه وترحم عليه. ومن قصائده الضافية الشاملة في مضامينها هذه القصيدة التي نختار منها بعض الأبيات؛ حيث يقول: فلا بالتمنّي تبلغ النفس حظّها ولا بالتّأنّي فاز بالصّيد طالبه ومن لا يعدّي عن حياضه تشرَّع ومن لا يكرِّم لحيته حِلْق شاربه والى حلَلْت بدار قومٍ فدارهم مراعاة قول الله وفي الشرع واجبه والدار ما يِحْصَرْ عليها وليدها دار الفتى ما طاب فيها مكاسبه والملك تاج ما له إلاّ المصونة ومن لا يصونه ينزع التّاج واهبه ولا يَدٍ إلاّ يد الله فوقها ولا غالبٍ إلاّ له الله غالبه وترى شور من لا يستشيرونه الملا شمعة نهارٍ في ضيا الشمس ذايبة وترى النصايح في البرايا فضايح كم ناصحٍ اضحى له الناس عايبة والسالم اللى كَفّ خيره وشَرّه ومن لا يسوّي خير ما جاه نايبة ومن حَب شيٍ لازمٍ يطيعه وينقاد له قود النّضاة المداربة وما للفتى إلاّ لبوسه وقوته وما قدّمه لله في يوم واجبه ولا عاب قومٍ قَطْ إلاّ حسودهم ومن عاب شخصٍ عاجزٍ من مراتبه وكم حافرٍ بيرٍ خباها لغيره فامسى خديعٍ ذاق فيها معاطبه أبيات للخلاوي في مخطوط ابن يحيى دقة الخلاوي في حساب النجوم ناصر الحميضي