قال صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل خلال مشاركته في فعاليات مؤتمر فكر 16 المنعقد بدبي إن غياب الرؤى والتوجهات الإستراتيجية عند كافة القوى الدولية حول متطلبات السلم والأمن الدوليين مسؤولة - بالدرجة الأولى - عمّا يعيشه العالم من توتر واحتقان وعدم يقين، والسياسات الدولية المتخبطة للدول القائدة في المنظومة الدولية مسؤولة عن كثير مما يجري في العالم وفي منطقتنا؛ لكننا - نحنُ العربَ - مسؤولون أيضاً عن حالة الانكشاف الإستراتيجي في منطقتنا بفشلنا خلال العقود الماضية في حماية استقرار أمن دُولنا الداخلي والإقليمي، وفي ترك النوافذ مشرعةً لكافة أنواع التدخلات الدولية في شؤوننا. وأضاف سموه لقد تغيّر ميزان القوى العالمي وتغيّرت معه موازين القوى الإقليمية، ودخلت منطقتنا في فراغ إستراتيجي أظهر طبيعة التحديات التي تواجه دُولنا العربية داخلياً وخارجياً. وأشار سموه لقد كان الصراع العربي الإسرائيلي، وما زال، هو الصراعَ المحوريَّ في المنطقة وبؤرة عدم استقرارها منذ بدايته وحتى اليوم. ومهما يقال عن تراجع الاهتمام بهذه القضية؛ إلا أنها تبقى، إن لم يُصر إلى حلِّها، مصدراً دائماً لعدم الاستقرار. وفي هذا السياق فإن الشعوب العربية تنظر إلى القوى الدولية من خلال مواقفها حيال هذا الصراع الذي يشكل حَلُّه مفتاحَ الأمن والاستقرار في المنطقة، وهذه المواقف - في مجمل الأحيان - هي الكاشفة للنفاق السياسي للقوى الدولية التي تنادي وتُبشر بترسيخ قِيَمِ الحرية وحق تقرير المصير والمساواة بين البشر وحكم القانون. وأضاف، أعلم أن المواقف مختلفة بين القوى الدولية نحو هذه الصراع المزمن؛ لكنها جميعاً تبقى مسؤولة عن الفشل في فرض حلٍّ يحقق تطلعات الشعب الفلسطيني وينسجم مع القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وتجاهلُ حلِّ هذا الصراع من قِبَلِ الولاياتالمتحدة والدول الفاعلة الأخرى سيبقى عائقاً أمام تحقيق الاستقرار في المنطقة، لقد بادرت المجالس الشعبية المنتخبة في عدد من الدول الأوروبية، على سبيل المثال، بمطالبة حكوماتها بالاعتراف بدولة فلسطين ولكن تلك الحكومات، والتي تتشدق بإيمانها بالديموقراطية، لم تقبل بتلك الدعوات من المجالس التي تمثل شعوبها. وأكد سموه إن من المصادر الرئيسة لعدم الاستقرار الحالي في المنطقة ما يعود كذلك إلى الدور الإيراني فيما بعد ثورة 1979؛ سواء أكان ذلك في سعي إيران للهيمنة السياسية، أم في تدخلاتها في الشؤون الداخلية لدولنا ونشر أفكارها الطائفية ومحاولة تصديرها إلينا، ودعمها للإرهاب الطائفي، أم من خلال سعيها الحثيث لامتلاك مصادر القوة غير التقليدية، أم في غموض نواياها وخططها، أم في احتلالها لِجُزُرِنَا الإماراتية. إن دور بعض القوى الدولية في احتواء هذا الخطر غامضٌ جداً؛ بل يمكن القول إن بعضها لا يفهم ولا يستوعب إحساسنا بهذا الخطر الداهم. فالدول الأوروبية والصين وروسيا، في مواقفها الغامضة تجاه الدور الإيراني في المنطقة، تشجع - أرادت أم لم ترد - إيران على الاستمرار في سياساتها العدوانية في المنطقة، وهي لم تقم بدورها كقوى كبرى بالضغط على إيران لتغيير توجهاتها العدوانية المسببة لانعدام الأمن والاستقرار الوطني والإقليمي. وحتى لو كانوا يرون إيران ملتزمةً معهم بمعايير الدول؛ إلا أنهم يغمضون عيونهم عن حقيقة أن إيران تتعامل معنا بمفهوم الثورة التي تريد تغيير طبيعة المنطقة والهيمنة عليها. قد تكون الإدارة الأميركية الحالية أكثر وضوحاً في موقفها من السياسات الإيرانية التوسعية؛ إلا أن السياسة الأمريكية التي اتبعتها الإدارة الأميركية السابقة كانت من أسباب تشجيع إيران على استمرار غطرستها. وأوضح سموه إن من عوامل عدم الاستقرار الرئيسة هي حالة الاستقطاب الدولية في منطقتنا، فما تعرضت له دول "الربيع العربي"، ولاسيما تلك الدول التي انزلقت إلى الفوضي والحروب الأهلية المستمرة منذ 2010، والفشل في إيجاد الحلول المناسبة لها، أسهم بشكل كبير في زيادة عوامل الفوضى وعدم الاستقرار. إن فشل المجموعة الدولية في معالجة الأزمة السورية والأزمة الليبية، واستمرار الاختلاف حول سبل حلها بين القوى الدولية دليلٌ واضحٌ على حدة هذا الاستقطاب. والوضع في سورية هو الأكثر تأثراً بارتدادات هذا الاستقطاب. لقد أخطأ الجميع في حق الشعب السوري ومطالبه المشروعة التي أعلنها في حراكه السلمي عام 2011، المؤيدُ منهم لهذه المطالب والمعارضُ لها، وأسهم الجميع في وصول هذا الشعب إلى الحالة المأساوية التي يعيشها اليوم. فبعد وقوع نصف مليون ضحية ومليون مصاب، وتهجير ونزوح أكثر من نصف الشعب، وتدمير المدن السورية العريقة، وتحويل الدولة السورية إلى حطام دولة يجدر بنا أن نعترف بحقيقة فشل الجميع: القوى العالمية الكبرى والقوى الإقليمية في تفادي هذه الكارثة الإنسانية. إن القوى الدولية الكبرى تتحمل المسؤولية الأولى عن هذه الكارثة، ولاسيما الدول التي استخدمت عضويتها في مجلس الأمن لمنع اتخاذ موقف دولي موحد لمنع مثل هذه الكارثة. وكل القوى الدولية التي تدخلت أو امتنعت عن التدخل في حل هذه الأزمة كانت مساهمة في استمرارها ومسؤولة أخلاقياً عنها. لقد كان اتفاقٌ دوليٌّ على التدخل لوقف هذه المأساة كفيلاً بوضع الأمور في نصابها، وفرض تسوية عادلة على النظام السوري. ومن المفارقات ما نراه من موقف روسيا في دعم الأسد بحجة أنه يمثل الشرعية في سورية ومحاربة الإرهاب بينما هي تقصف المعارضة الوطنية والأبرياء وذلك كله بينما أيدت روسيا انفصال القرم عن أوكرانيا بحجة حماية ذوي الأصول الروسية وكذلك ساعدتهم في شرق أوكرانيا متجاهلةً الحكومة الشرعية. إن الانتصار العسكري على شعب مغلوب على أمره لن يحقق السلام المنشود، وحتى لو تحققت السيطرة العسكرية للنظام على كل سورية فلن يتغير شيء؛ بل سوف تعود الأمور إلى نقطة البداية، وهي أن هناك شعباً يريد نظاماً يمثله لا نظاماً يقتله. وقال سموه يبقى الإرهاب مصدراً رئيساً لعدم الاستقرار في المنطقة، وهذا الإرهاب ليس إرهاب داعش - أو كما أسميها فاحش - والقاعدة فقط؛ بل إرهاب كل القوى والميليشيات المتطرفة الطائفية في العراق وسورية واليمن ولبنان وغيرها من الدول. فهذا الإرهاب العابر للحدود يشكل تهديداً وجودياً لمفهوم الدولة الوطنية في منطقتنا. وعليه، فعلى الجميع الإسهامُ في دحره وهزيمته وإيجاد الظروف المناسبة لمعالجة مسبباته. ولا شك في أن للقوى الدولية دوراً مهماً في ذلك، ولكنْ على هذه القوى أن تتفق على تعريف محدد لهذا الداء، لكيلا يبقى ذريعة للتدخلات الدولية التي قد تنجح عسكرياً في دحره؛ لكنها تخلف آثاراً تسهم في توليده من جديد. وأوضح سموه إن تشخيص القوى الدولية لأوضاعنا، ورسم إستراتيجياتها وسياساتها بناءً على هذا التشخيص، لم يؤد بنا إلا إلى كوارث لا نهاية لها. لقد شخصت الولاياتالمتحدة حالة العراق قبل 2003، ورأت أن المطلوب غَزْوُه وإقامة نظام ديمقراطي فيه، وكانت النتيجة كما تعرفون: حالة مزمنة من عدم الاستقرار والفوضى التي أدت بنا إلى ما نحن عليه اليوم، وبالتالي ما حكَّ جلدك مثل ظفرك. واكد سموه إن عالمنا العربي عالم منكشف إستراتيجياً على جميع الأصعدة ومفتوح على كافة الاحتمالات. لقد كان هذا الانكشاف واضحاً للعيان منذ عقود إذ كانت حالة التشرذم والضعف قائمةً فيه جراء تداعيات أحداث جسام حلت في المنطقة خلال العقود الماضية، منها: الحروب العربية الإسرائيلية، والحرب الأهلية اللبنانية، والحرب العراقيةالإيرانية، وغزو الكويت، وغزو العراق، من جراء الانكفاء على الذات وعدم التعامل مع المهددات المشتركة لكياناتنا ولشعوبنا، وجراء سياسات اقتصادية واجتماعية وتعليمية وإعلامية وثقافية غير موفقة على المستوى الوطني في كثير من دولنا العربية، وجراء الأنانية التي ميزت السياسات الخارجية العربية خلال عقود كثيرة، وأيضاً بسبب وقوع الدول العربية ضحية سياسات وتدخلات خارجية مستمرة برضاها أو سكوتها أو مسايرتها أو دون إرادتها. وأضاف سموه إن ما نشهده اليوم في عالمنا العربي من اضطرابات وفقدان للتوازن، على مستوى الدول وعلى مستوى الإقليم، كان نتيجةً حتميةً لخطل السياسات والخيارات المتبعة داخلياً وخارجياً. وكل ما نشهده اليوم أيضاً من تداعيات ما سُمي ب"الربيع العربي" ما هو إلا شهادةُ إدانةٍ لتلك السياسات ونتيجةٌ طبيعية لها. وحصيلتها ما جرى ويجري في العراق، وانزلاق سورية إلى مستنقع الدم والدمار والخراب والإرهاب والمؤامرات والتدخلات الخارجية، ودخول اليمن في أتون صراع وحرب داخلية، وفشل الدولة الليبية، وعدم الاستقرار في دول عربية أخرى، وانتشار ظاهرة الإرهاب العابر للحدود في كثير من دولنا، وتفاقم ظاهرة المليشيات المسلحة غير الخاضعة للدولة الوطنية، وتفشِّي الطائفية البغيضة، وغيرها من ظواهر تختزل حاضرنا. وأكد سموه إن التحديات التي تواجه العالم العربي كثيرة، داخلية وخارجية، وأهم التحديات الاستراتيجية التي علينا مواجهتها حالياً بسياسات فاعلة تساعدنا على التخطيط لمستقبل أفضل وإيجاد بيئة استراتيجية تخدم مصالحنا وأمننا الوطني، هي: أولاً: إن حالة الاستقطابِ الحادِّ للقوى السياسية والاجتماعية الجديدة التي أفرزتها التحولاتُ السياسية الجارية في منطقتنا، وظهور النزعات الغريزية المُسَيَّسةِ الدينيةِ والطائفيةِ والمذهبيةِ والإقليميةِ والقبليةِ المكتومةِ في سيكولوجية شعوبنا هي أكبرُ تحدٍّ يواجه دولنا العربية، ويُولجها مآزقَ جديدةً تُهَدِّدُ أمنها الوطني وتهدد وجودها ذاته؛ ما يعني أننا أمام واقع خطير ما لم تدرك الشعوبُ ونُخبها خطورةَ الأوضاع، ووجوبَ التنبُّه بشكل جدي لمشكلات بلدانها الكثيرة والمُركَّبة لصون دُولها ومجتمعاتها من خطر التفكك والتقسيم. إن الحفاظ على الدولة الوطنية في العالم العربي أمرٌ حيويٌّ لأمن وسلام مجتمعها، لكن ذلك لن يتحقق ما لم يُصر إلى تجنب كثيرٍ من السياسات التي كانت متبعةً في مجالات التنمية كافة، وإيجاد علاقةٍ سويةٍ بين الدولة والمجتمع؛ بحيث تكون الدولةُ الحاضنَ للمجتمع بكل ألوانه وتنوعاته، ومُلبيةً لطموحاته وتطلعاته، ومرجعيةً لهُوِيَّته الوطنية. وفي الوقت نفسه على الحكومات ونُخبها أن تكون سبَّاقة في الاستجابة لمتطلبات الإصلاح والتطور الدائم لقيادة مجتمعاتها نحو الأفضل. وعليه ينبغي لولوج المستقبل بثقة إنقاذُ الدول العربية المعرضة للانهيار والتفكك، وإنقاذ مجتمعاتها بمساعدتها على تجاوز هذه المرحلة الخطيرة، وإعانتها على صوغ عقد اجتماعي جديد ينقذها مما هي فيه من محن، ويحقق طموحات وتطلعات شعوبها، وصيانة أمن واستقرار الدول المعرضة للمخاطر. ثانياً: ضعف وهشاشة وتشرذم النظام الإقليمي العربي بكافة مؤسساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فهو قليل الفاعلية، وغير قادر على تأمين الحد الأدنى من الدفاع عن الدول العربية؛ ناهيك عن تأمين احترامها في إطار النظام العالمي وفي إطار طموحات الشعوب العربية. وإذا ما أردنا أن تكون لنا فاعلية في النظام الدولي فلا بد من معالجة جدية لمعاناة هذا النظام العربي من خلال تعزيز العمل المشترك في كافة مجالاته والابتعاد عن عُقَدِ الماضي الأيديولوجية والأنانية، وعقدة الصغير والكبير والأقدم والأعرق والأحدث التي وصمت العمل العربي المشترك خلال العقود السبعة الماضية. إن إعادة الاعتبار إلى الجامعة العربية لتقوم بدورها المنوط بها ضرورة للحفاظ على نظام إقليمي خاص بنا لكيلا يكون البديل طروحات تلغي عروبتنا وتتيح لمن لا يرجو لنا خيراً الهيمنة على شؤون منطقتنا. ثالثاً: ضعف وهشاشة واحتقان الأوضاع الداخلية في بعض دول العالم العربي على كافة المستويات السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وإذا ما أردنا العبور إلى المستقبل فلا بد لنا من إجراء إصلاحات حقيقية تستجيب لحاجات المجتمعات العربية وتطلعاتها، وتستوعب كافة القوى والفئات والأقليات، وتحول دون تفشي نزعات التطرف والإرهاب، وتحمي كيانات الدول ووحدتها، كما أن هذه الإصلاحات سوف تسمح بالتفاعل الإيجابي مع العولمة والاستفادة من مكتسباتها. ويجب ألاَّ تعوقنا مخاوفنا، التي قد تكون وهمية على هويتنا وقيمنا وعقيدتنا، من هذا التفاعل الإيجابي مع العالم. إن هويتنا وقيمنا وعقيدتنا أعمق مما نتخيل. إن مما يدعو إلى التفاؤل أن كثيراً من الدول قد أدركت مدى الحاجة إلى الإصلاح وبدأت به، لكنْ لا ينبغي أن تتوقف هذه العملية لأي سبب من الأسباب. لا بد من إصلاح الأدوات الدولية التي تلجأ إليها الدول لمعالجة المشاكل فحق الفيتو يجب أن يرافقه إجراء بحيث إذا صدر قراراً من مجلس الأمن قبل قرار (242) فلا يحق بعد ذلك للدول الخمس ذات النقض أن تنقض تنفيذ القرار وهذا ما سيحل عقدة القضية الفلسطينية بمنع أميركا من نقض تنفيذ بنود القرار (242) وكذلك القضية السورية يمنع روسيا والصين من نقض تنفيذ القرار المتعلق بها. وقال سموه إن معالجة أوضاعنا وصمودنا في وجه التحديات الخطيرة التي تواجهنا وترتيب بيتنا العربي هو ما يجعلنا شركاء مع القوى الدولية في حفظ أمن المنطقة واستقرارها. وشروع المملكة العربية السعودية في اعتماد رؤية (2030) نابع من معرفة قيادتنا الرشيدة الممثلة في خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين بضرورة ولوج تحدي التطوير والنهوض بمجتمعنا لكي نبلغ المقام الذي تستحقه بلاد الحرمين الشريفين ومنبع العروبة. Your browser does not support the video tag.