ظلت التهديدات الإيرانية للأمن القومي العربي تتزايد وتكتسب قدراً من الشمول والتنوع منذ قيام الثورة المزعومة 1979م، ثم جاءت الحرب "العراقية - الإيرانية" 1980 - 1988 والتي دفعت إلى وضع إيران في قائمة مهددات الأمن العربي على اعتبار أنها خاضت الحرب ضد دولة عربية تمثل أحد حصون القومية العربية. وأشار رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية ومدير برنامج الخليج العربي بمركز الدراسات الإستراتيجية بالأهرام د. معتز سلامة، إلى أن إيران طرحت ستة أنماط من التهديد للأمن العربي منذ تفجر الثورة 1979م، فعلى الرغم من التأثيرات السلبية للحرب العراقية - الإيرانية على الأمن العربي خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين، لا يمكن تحميل إيران وحدها مسؤولية إحداث الخلل في ميزان القوى العربية مع إسرائيل، لأنه في الأغلب لم تكن القدرات التسليحية للدولة العراقية آنذاك تتجه إلى إسرائيل بالأساس، ولو لم تقع الحرب كانت هذه القدرات حسب بعض التقديرات ستتجه نحو دول مجلس التعاون الخليجي، مع ذلك فبالحسابات الواقعية والمادية البحتة، وباعتبار أن عراق صدام لم يكن ليسلك نهجه التوسعي في الجوار، فقد أدت الحرب إلى تعزيز الفصل بين أمن الخليج والأمن القومي العربي. وأضاف في دراسة بحثية بعنوان "إيران والأمن القومي العربي" أن دول الخليج أنفقت عشرات المليارات للدعم العسكري والاقتصادي للعراق طوال الحرب وقد وضعت الحرب دول الخليج العربية بين قوتين إقليميتين دخلتا في صراع ممتد، وهو ما انتهى بخريطة مغايرة لأمن الخليج؛ فبدأت الحرب ودول مجلس التعاون الخليجي تعلن رفضها المطلق لأي تدخل أجنبي في المنطقة مهما كان مصدره، وتطالب بضرورة إبعاد المنطقة بأكملها عن الصراعات الدولية وخاصة تواجد الأساطيل العسكرية والقواعد الأجنبية، وانتهت والأساطيل الأجنبية تجوب جنبات الخليج، ومن ثم كانت الحرب السبب الرئيسي في اتخاذ أمن الخليج مساراً منفصلاً عن الأمن العربي وخلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين الذي شهد هذه الحرب حققت إسرائيل أهم التمايزات على العالم العربي في موازين القوى العسكرية، وشنت أكثر اعتداءاتها العسكرية على الدول العربية، وطالت الذراع الإسرائيلية الطويلة كلاً من العراق (ضرب مفاعل أوزيراك 1981) ولبنان 1982، وتونس 1985 (اغتيال القيادات الفلسطينية) وكرست الحرب الشرخ الكبير بين دولتي البعث في العراق وسورية، على إثر وقوف الأخيرة إلى جانب إيران. تقييد القدرة العسكرية الخليجية وكان أحد الأدوار السلبية التي لعبتها إيران أنها أسهمت في تجميد القدرات العسكرية الخليجية كطاقة إضافية في الصراع العربي الإسرائيلي؛ فعلى الرغم من أن دول مجلس التعاون الخليجي لم تقدم مساهمات عسكرية كبيرة في الصراع العربي الإسرائيلي بحكم محدودية قدراتها وظروفها الخاصة، إلا أنها قامت بأدوار إسنادية متميزة للقدرات الدفاعية العربية في حربي 1967م و1973م، ويمكن تحديد جوانب تفاعل دول الخليج مع القضية الفلسطينية في أربعة، هي: الإسهام في المجهود العسكري، الدعم الاقتصادي لدول المواجهة وللفلسطينيين، وتوظيف دور النفط، وطرح مبادرات سياسية.. ومن المؤكد أن هذه الجوانب للتفاعل الخليجي مع الصراع العربي الإسرائيلي كانت ستتخذ مستويات أعلى لو لم يكن التهديد الإيراني قائماً. لقد أدى تبني إيران لمبدأ تصدير الثورة إلى انشغال دول الخليج بأمنها، وأنفقت أدوات السياسة والإعلام الخليجية وقتاً طويلاً في مواجهة الإعلام الإيراني، ومساعي إيران لزعزعة استقرارها الداخلي ولقد سعت إيران إلى تعزيز شرعيتها الإقليمية بتوظيف دعمها للقضية الفلسطينية، حتى بدا أن ما يجمع إيران بالفلسطينيين وقضيتهم هو على شاكلة خطوط اتصال كثيرة تتقاطع أحياناً عند نقطة اشتراك واضحة تتمثل في الإجماع على العدو المشترك متمثلاً بإسرائيل، لكن هذه الخطوط تختلف عند نقاط أخرى تطغى عليها لغة المصالح. ولقد دفعت ضرورات التوفيق بين الثوابت والمصالح في السياسة الإيرانية أحياناً إلى انتهاج طهران طريقاً مغايراً للطريق العربي، فلم تظهر إيران في المجهودات العربية في القضية الفلسطينية، ولم تدخل إلى ساحة الصراع العربي الإسرائيلي من البوابة الإضافية للعرب، وإنما من بوابة المنافسة والمناكفة، وهو ما جعلها تدعم تنظيمات مناهضة للخط القومي والخط الفلسطيني الرسمي، بحد انتهى إلى الخصم من القدرات العربية في الصراع، وقد وضع ذلك الفلسطينيين في حرج كبير ناتج عن عدم القدرة على خلق حالة توازن بين علاقاتهم بدول الخليج العربية التي قدمت الكثير للقضية الفلسطينية وإيران التي تقاربت معهم وساندتهم لكهنا دخلت في تنافس واستقطاب مع دول مجلس التعاون الخليجي. تفتيت الكيانات الوطنية ومن أشد الأخطار التي طرحتها إيران على الأمن القومي العربي، عدم إيمانها بالمداخل الرسمية والسلطات الشرعية والوطنية في علاقاتها مع الدول العربية، بارتكانها إلى نهج تدخلي في مكوناتها الداخلية، فلا تقتصر إيران في علاقاتها بالدول العربية على العلاقات الرسمية كدولة في عالم من الدول، وإنما تتدخل في المكونات الداخلية للوحدات الوطنية، وتتبع سياسات تمييزية بين الفصائل والجماعات الوطنية، لتخلق أوضاعاً داخلية لا تساعد على الاستقرار، وتؤسس لتوابع فصائلية وجيوب بؤرية تدور في فلكها القائم على ادعائها الولاية المذهبية على الشيعة بالعالم، وهو ما يشكل أدوات هدم تدريجي للدول من الداخل. ولقد دفعت شواهد وعقيدة التمدد الإيراني في الدول العربية بالبعض إلى التأكيد على أن إيران راهنت في توسعها على منهجية أن القدرة تهزم الكثرة، إما بإخضاعها أو بتشتيتها، وهو ما طبقته في أكثر من مدينة وحاضرة عربية تاريخية في الشام وبلاد ما بين النهرين (بغداد، النجف، الموصل، حمص، حلب، ودمشق)، في عملية استهداف واضح للديموغرافيا العربية وتحويل الأغلبية العربية السنية إلى أقلية. وتشكل الأساليب والمناهج الإيرانية في التعامل مع كل من لبنانوالعراق والجماعات الفلسطينية قبل وبعد 2011 وسورية واليمن بعد 2011 نماذجاً على النهج الإيراني التفتيتي للكيانات الوطنية، ففي هذه الدول انتهت العلاقات الإيرانية مع الأطر الرسمية للدولة إلى تعزيز وخلق كيانات فصائلية تمارس الحرب على الكيان الوطني لمصلحة العقيدة والنهج الإيراني، وفي كل من سورية والعراق واليمن عملت إيران على إنشاء مليشيات وأحزاب طائفية مسلحة على غرار حزب الله. ولقد ساعدت الممارسات الإيرانية في السنوات الأخيرة على حرمان العالم العربي من فرصة التوحد على أساس وطني قوي بشأن القضية الفلسطينية؛ فلقد ظل العالم العربي لعقود منقسماً بين محوري الاعتدال والممانعة، وحينما سقطت قوى محور الممانعة، اندفعت إيران لبناء محور تعويضي، لكنها قامت بأدوار لم تكن في مصلحة التوحد العربي، فجمعت حولها دولاً عربية تابعة وكيانات دون وطنية، واخترقت نسيج المجتمعات، وذلك حرم العالم العربي من فرصة توحيد قواه الوطنية وفق نهج متقارب بشأن القضية الفلسطينية، وأصبحت أدوار القوى الأدنى خصماً من الأدوار الوطنية الكلية للدول العربية. ويندرج ضمن هذه الجزئية محاولات إيران إضافة عناصر اضطراب إلى الهوية الوطنية والدينية والمذهبية، وإرهاق النسيج الطائفي والاجتماعي في الدول العربية، من خلال السعي إلى نشر المذهب الشيعي، أو إسناد وتعظيم الطوائف الشيعية، وهناك اتهامات كثيرة لإيران في هذا الشأن، الأمر الذي جعل دولاً عربية تتردد في بناء علاقات معها، أو تقطع علاقاتها بها في فترات مختلفة. وكان لافتاً في 2016 ما بدا من قلق جزائري من التمدد الشيعي، حين حذّر رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر، من "محاولات زعزعة وحدة المجتمع الجزائري"، وكان وزير الشؤون الدينية والأوقاف الجزائري قد صرح أن "تيارات تحاول اختراق المجتمع الجزائري"، واشتكى من الغزو الطائفي في بلاده. وكانت مصر من أوائل الدول العربية التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إيران عام 1981، بعد اغتيال الرئيس السادات وإطلاق اسم قاتله (خالد الإسلامبولي) على أحد الشوارع في العاصمة طهران. وقطعت المملكة علاقاتها الدبلوماسية مع إيران بين عامي 1987 - 1991م، إثر مواجهات دامية في الحرم المكي، عقب قيام الحجاج الإيرانيين بأعمال شغب واعتداء على الآمنين. كما كان المغرب قد قرر في مارس 2009م قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران، إثر محاولة طهران تغيير الأسس الجوهرية للهوية المغربية، وتقويض المذهب المالكي السني الذي يتبناه المغرب، وهو ما اعتبرته "تدخلاً لا يمكن قبوله" في الشؤون المغربية، و"يخالف القواعد والأخلاق الدبلوماسية". وقررت الحكومة اليمنية الشرعية طرد السفير الإيراني في صنعاء وسحب القائم بالأعمال اليمني لدى طهران في منتصف 2015، تعبيراً عن رفضها الدعم الإيراني لانقلاب جماعة الحوثيين ضد الرئيس عبدربه منصور هادي. دعم الخونة إذا كانت الأشكال السابقة تتضمن اتجاهات سياسية وتوجهات عقائدية مذهبية تجسد الأشكال الكبرى للسياسة التدخلية الإيرانية، فإن أنشطة إيران الضارة بالأمن القومي العربي اتخذت أشكالاً عملية فعلية على أراضي دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك ما أبرزته الوقائع الكثيرة التي أعلنت عنها دول المجلس وألقت بمسؤوليتها على إيران، وهناك عشرات الحوادث في السنوات الأخيرة التي أعلنت دول مجلس التعاون عن تورط إيراني صريح فيها لزعزعة أمنها الداخلي وتورط عناصر إيرانية في خلايا وشبكات تجسس وعنف، وتتكرر هذه الحوادث خصوصاً في البحرين والكويت والمملكة التي أعلنت مراراً عن القبض على خلايا عنف وتجسس لمصلحة إيران، ولقد أوردت بيانات وزارات الداخلية في دول مجلس التعاون الخليجي تهماً موثقة نحو إيران. الاستقطاب المذهبي.. أخطر تهديد اتجهت السياسة الإيرانية مع موجة الثورات العربية في 2011، إلى تلوين صراعها السياسي بالصبغة المذهبية تحت شعارات الجهاد المقدس، فانتعشت حملات التجنيد والتعبئة للألوية التابعة للحرس الثوري في بعض الدول العربية، خصوصاً في العراق وسورية، كما عملت إيران على تجنيد الأطياف الشيعية من أفغانستان وباكستان ودول آسيا الوسطى في المواجهة المذهبية ضد الجماعات والقوى السلفية المسلحة في سورية والعراق، ويعني ذلك ابتعاث الصراعات المذهبية التاريخية في الدول العربية وهذه التوجهات التي تنحو نحوها السياسة الإيرانية قد تشكل مقدمة لاستقطاب وصدام مذهبي إستراتيجي شامل بالمنطقة. وتبرز خطورة ذلك مع بوادر تعانق "الجهادية الطائفية" أو "التطيف الجهادي" أو "الجهاد المذهبي" مع الإرهاب، وهي الظواهر التي برزت في أعقاب الثورات العربية التي نظرت إليها إيران على أنها فرصة سانحة لمد نفوذها في المنطقة، ولعل ذلك ما ألمح إليه الأمين العام لمجلس وزراء الداخلية العرب د. محمد كومان في كلمته خلال أعمال المؤتمر العربي التاسع عشر للمسؤولين عن مكافحة الإرهاب حين أكد أن "أخطر عامل يؤجج الإرهاب في الوطن العربي اليوم هو الخطاب الطائفي المقيت الذي تعمل قوى إقليمية على نشره لإضعاف الأمة العربية". النووي الإيراني.. والأمن العربي طرح الملف النووي لإيران تحديات شديدة على أمن دول الخليج العربية، فلم يكن هذا التهديد متعادلاً بخطورته في مناطق العالم العربي الأخرى على نحو ما استشعرته منطقة الخليج، والنتيجة العامة التي يمكن الوصول إليها من خلال رصد أنماط التدخلات والسياسات الإيرانية التي أثرت في الأمن القومي العربي منذ الثورة المزعومة هي أن إيران مثلت أحد العراقيل الأساسية أمام تطور منظومة أمن قومي عربية فاعلة، حيث عملت على فصل أمن الخليج عن منظومة الأمن القومي العربي، وفرضت على الدول العربية تهديداً شديداً جعلها تكرس هدفها الأساسي لحماية الذات من التدخلات الإيرانية، كما فرضت على دول المنطقة قائمة نزاعات وصراعات داخلية خطيرة، وصحيح أن إيران لم تكن وحدها المتسبب في ذلك، ولكنها شكلت -على الأقل منذ مطلع الألفية الثالثة- الشاغل الأول لجهات الأمن القومي الخليجية. وفي ظل أنماط التهديد الستة السابقة، يمكن القول: إن إيران جسدت فعلياً ما يمكن تسميته بحال "الجار المناكف" للعالم العربي، ولدول مجلس التعاون الخليجي تحديداً، وهو الجار الذي لا يسلم منه جاره ولا يسعى إلى طمأنته وإراحة جانبه بشأن علاقات الجوار، ولا يدخر وسعاً في إقلاق جانبه عند كل حادثة، ويفرض عليه تكاليف أمنية باهظة بسبب تدخله الدائم في شؤون جاره بالغموض وإضمار الشر وعدم سلامة النية والطوية، وبالتهديد أو الامتداد بالأذى الفعلي ولا يبدو أن السياسات الإيرانية في سبيلها إلى التغيير في المدى المنظور، بل إن بعض المتغيرات الإقليمية تشجعها على المضي في خطها الراهن، لذلك فإن الأرجح أن تستمر إيران، وربما تتجه إلى التشدد أكثر في تطبيق تلك السياسات.