بالأمس كانت المنازل صغيرة، وتسكنها أسرة كاملة، أمّا اليوم أصبحت الفيلا تضيق على أسرة صغيرة. بالأمس كان يوم السعد دخول الضيوف للبيت، أمّا اليوم فأصبح طريق الضيف الاستراحة! بالأمس كان إطعام الجار والتواصل معه ومشاركته في الأفراح والأحزان، والتواصل مع الأهل والأقارب شيئاً أساسياً، كانت قلوباً بيضاء ومنازل صغيرة، وكانوا يعيشون على مبدأ "لقمة هنية تكفي مية"، أمّا اليوم فلا أحد يعرف عن الآخر شيئاً، لماذا هذا التغير، ولماذا ضاقت النفوس؟ نية صافية يقول سليمان البلوي -رئيس مجلس إدارة جمعية البر بمحافظة الوجه-: كانت الحالة الاجتماعية بالسابق محدودة المعيشة، ومع ذلك كان الترابط قوياً بين الأسرة، كان فعلاً بيت صغير يلم أسرة الرجل وأهله وأولاده وإخوانه وأقاربه، وكانت كل الأسر حول بعضها والنية صافية وصادقة، لكن مع التوسع الحضاري ووصول التقنيات كثر التفكك الأسري والتعالي على البعض، وانتشر التباعد الأسري، متمنياً أن يعود التآلف، ويعود الترابط الذي فقدناه في زحمة ما نعيشه من تطور. وتحدث عطية الحويطي -مهتم بالموروث الشعبي وناشط في مواقع التواصل الاجتماعي- قائلاً: عاصرت أجيالاً وعشت الزمن الجميل المسمى زمن الطيبين، وها أنا أعاصر هذا الجيل، فشتان بين ذاك الزمن وهذا الزمن، كانت مجالسنا تجمع الجميع ألفة ومحبة وتكاتفاً، في المناسبات يشارك الجميع وفي الأتراح الوقوف صفاً واحداً، ولا تجد إنساناً يمر بأية ظروف إلاّ والجميع هب لمساعدته دون منّة أو مصلحة، قلّما تجد محتاجاً، فالكل يعلم بظروف من حوله، لكن حال يومنا هذا تغير كل شيء، فالجار لا يعرف جاره ولا يعلم ظروفه، وأصبحت البيوت مهجورة من زوارها، مضيفاً: "في الزمن القديم بساطة ومجالس صغيرة، لكنها تجمع الجميع، وزمننا الحاضر مجالس كبيرة وديكورات جميلة لكنها تشتكي جفاء الزوار"، مبيناً أنه أصبحت الولائم التي كنا نشاهدها تقام في البيوت في ذلك الزمن وفي مجالسها وبطهي من أصحاب المنزل، الآن تقام في استراحات وبأيدي طهاة آخرين، ذاكراً أنه أصبحت الحياة بروتينها الحالي مُملاً، والكل مشغول بنفسه عن الآخر، بل وصل الأمر للأقارب والأخوة لا يلتقون إلاّ في المناسبات المتباعدة، مؤكداً على أنه أصبحت التقنية الحديثة سبباً في تباعد الناس عن التواصل الحقيقي الذي حث عليه ديننا الحنيف، حيث أصبحت تهاني المناسبات برسائل الواتساب وغيره!. قلوب بيضاء وأوضحت شدى عبدالحليم -أخصائية نفسية ومستشارة أسرية- أن الأسرة نواة أساسية للمجتمع، أصبحت لا تجتمع على وجبة طعام بينما في الزمن الماضي كان العكس، ويعود السبب لرغبة الأبناء بالجلوس بمفردهم والاستمتاع بالأجهزة الإلكترونية، وكانت من العادات أيضاً إطعام الجار والتواصل معهم ومشاركتهم في الأفراح والأحزان، وكان التواصل مع الأهل والأقارب شيئاً أساسياً، كانت قلوباً بيضاء ومنازل صغيرة وكانوا يعيشون على مبدأ "لقمة هنية تكفي مية"، مضيفةً: "الآن أصبح الوضع مغاير تماماً، أصبحت النفوس ضيقة لا تحتمل صبراً لأحد، الأمهات تغيرت، لم تعد الأم تعطي من وقتها ما يكفي لزرع القيم والعادات في أطفالها، الأب أصبح منشغلاً أكثر"، مبينةً أنه لا ننكر أن "التكنولوجيا" والحضارة لها سلبياتها على مجتمعنا لأننا تركناها تتحكم في حياتنا، لم نتحكم بها، أصبحت النفوس ضعيفة تخاف من الحسد والعين، النفسيات تغيرت أصبحت أكثر غروراً وانطواءً، مُشددةً على أهمية تقنين استخدام التكنولوجيا بكل أشكالها؛ لكي لا تضيع هويتنا وعاداتنا وتقاليدنا وما أمرنا به ديننا. بيوت مفتوحة وذكرت لمياء خان -مسؤولة القسم الإعلامي في تخصصي جدة- أنه مع وجود المنازل الكبيرة والواسعة إلاّ أنها تُركت مهجورة، يُنفض عنها الغبار من حين لآخر، ضاقت قلوب البشر أم خافوا على ممتلكاتهم وأثاث منازلهم الفارهة من أعين الناس تارة، ومن أن يخرب الأطفال جمالها تارةً أخرى، كل فرد من أفراد العائلة يحضر على مضض وكأنه على عجلة من أمره، أو كأن حدثاً مهماً في انتظاره، مشغول بالحوار مع جواله، ينظر إلى ساعته متذمراً يريد انتهاء المناسبة، إن التقت عيونه بالآخرين هز رأسه واصطنع ابتسامة المغصوبين، أفقدتنا الحضارة الدخيلة علينا كثيراً من المفاهيم الجميلة، وذهبت بأجمل أيامنا وما كان يصاحبها من عادات وتقاليد إلى مهب الريح، نحضر لنؤدي الواجب ليس إلاّ، وننتظر الأكل وعيوننا على باب الخروج حتى إن البعض يغسل يده في بيته، أصبح الناس يغلقون منازلهم ويستضيفون ضيوفهم بالخارج سواء في استراحات أو فنادق ومطاعم مغصوبين مرة في العام، هذا إذا فكروا باستضافتهم، افتقدنا تلك الأيام الجميلة التي كانت تسودها الألفة والمحبة، كانت البيوت مفتوحة والمقاعد مشرعة أبوابها في مداخل البيوت لا يمر أسبوع إلاّ ويجتمع الطيبون من أهل الحارة ويأتي القريب والجار والأبعد على فنجان شاهي، تدور الأحاديث شجية ندية بعطر الألفة والمحبة يفوح ألقها ويتضوع عبيرها، كانت النفوس صافية والقلوب واحدة، غسلتها المحبة والقربى من أدارنها، يتذرعون بمشاغل الحياة، نعم هناك مشاغل كثيرة في حياتنا الحاضرة لم تكن في الماضي، فالكل يعمل لساعات طويلة ويعود للمنزل لممارسة المهام والمتطلبات الأخرى، لكن يجب على الإنسان أن يوازن وأن يجد الوقت المناسب للاجتماع والاختلاط بالآخرين لو كانت مرة في آخر الأسبوع، يحاول أن يتناسى كل ضغوطات الحياة ويضعها جانباً ويستمتع بوقته فالحياة قصيرة. تغيرت النفوس وقالت أم مراد الحويطي: بالأمس كان الاستقبال سهلاً وبسيطاً، والضيف راض ومبسوط، جاء ليزورنا ويستمتع بصحبتنا، ونرد له الزيارة بنفس البساطة، اليوم الضيف نفسه تغير، أصبح ينظر كيف سنستقبله بعين الناقد لنقل ما رآه سواء في حديثه بعد الزيارة، أو من خلال جواله، مما يجعلنا نحسب لهذه الزيارة ألف حساب، فنختار لراحتنا استراحة، بعيداً عن أي استعدادات داخل المنزل قد تكلفنا أكثر من ثمن الاستراحة. وتساءل د. بخيت العطاوي ما الذي غيرنا؟ وهل نفوسنا ضاقت بنا قبل بيوتنا؟ أم كلاهما سوياً؟ بالأمس كانت البيوت صغيرة لكن النفوس كبيرة كيف ذلك؟،كان الناس قديماً حياتهم حياة مشقة وتعب ولكن قلوبهم كانت نظيفة من الحقد والحسد، كانت بيوتهم صغيرة لكن يجمعهم الحب والتآلف، فالإنسان إذا مرض قديماً فكل واحد يحزن لحزنه ويمرض لمرضه ويعوده في مرضه. فالقريب في الماضي المجيد كان ينتظر أي فرح وأي مناسبة وأي اجتماع أسرة من الأسر وليس أي اجتماع، بل من أسعد اللقاءات، وما أجمل حلاوة ذلك اللقاء في ذلك اليوم، متأسفاً كيف أصبحت هذه الدنيا دنيا الشكاوي! فالبيوت على كبرها لم تتغير لكن النفوس هي التي تغيرت، قال تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، أين نحن من أصحاب الأخلاق الفاضلة؟! أين نحن من قدوتنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق النبيل الرفيع! كان خلقه القرآن الكريم صلى الله عليه وسلم، ذاكراً أنه أصبحت الفيلا الآن وياللعجب تضيق على الأسرة الصغيرة، يجب أن نفتش عن العيب الذي تكنه صدورنا ونفوسنا، فدخول الضيوف للبيوت بأنواعها الآن يعد على الأصابع، يتم تحويل الضيوف على الاستراحات فوراً، أمّا ضيوف أبائنا وأجدادنا القدامى فيكرم كل منهم ضيفه في منزله ويفتخر بذلك، لكن الآن مع تقلب الزمن وتغيره بدخول التطورات الحديثة، وبسبب دخول بعض القنوات الفضائية، يجب التمسك بكتاب الله جل وعلا وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلن نضل بعدهما أبداً. استقبال الضيوف وتحدث أحمد السعد -اختصاصي اجتماعي- قائلاً: في الزمن الماضي الجميل كان جميع أفراد العائلة يكرسون جهودهم وكل يقوم بمهمته، فالأم تقوم بأعمال المطبخ والنظافة والترتيب وتعاونها الفتيات ونجد الأب يقوم بجلب المستلزمات والتجهيزات من خارج المنزل ويعاونه الأبناء أيضاً، نجد الجميع يعمل على قدم وساق منذ الصباح الباكر، كل هذا لمن؟ إنه لاستقبال الضيوف، مضيفاً أنه اندثرت هذه العادة في وقتنا الحاضر وأصبحت النفوس ثقيلة وتتكاثر وتتواتر الأسئلة بين الإخوة والأخوات "ليش فلان جاي؟"، "أكيد يبي شي" و"عنده شي"، فأصبحت الزيارة وصلة الرحم أمراً مستغرباً بين أفراد العائلة ومثيراً للتساؤلات، وهذا دليل على ضيق النفوس وانشغال الناس عن تلك الأمور الجميلة في الماضي، مبيناً أنه في المقابل نجد أن بعض البيوت عامرة بالضيوف وقد نجد رب المنزل حريصاً على إيجاد بيئة مناسبة لاستقبالهم، والبعض منهم قد يقوم بتأمين عامل للقيام بواجب إكرام الضيف، ذاكراً أن تطور الثقافات ووسائل الاتصال الجديد حدت من الكثير من هذه الأمور حيث إن الأخبار كانت سابقاً تنقل بواسطة المجالس واللقاءات سواء كانت في أحد منازل كبار السن أو تكون كل ليلة في منزل شخص ما، لكن الآن أصبح الاتصال قريباً جداً وبإمكان معرفة أخبار الآخرين حتى لو كانوا في أبعد نقطة على الخريطة، وذلك باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي. وأشار السعد إلى أنه من أهم الأسباب التي أدت إلى هذا التغير كثرة الانشغال والارتباط بالأعمال، حيث كان سابقاً يغلب على من يرتادون تلك المجالس الأعمال الحرة والتي قد تنتهي مع اقتراب وقت الظهيرة، بعكس ما هو عليه الوضع الآن، حيث إن البعض قد لا ينتهي من العمل ولا يعود إلى منزله إلاّ قبيل المغرب بقليل، مما يجعل الوقت ضيّقاً جداً وصعب التحكم به، هل هو للجلوس مع الوالدين؟ أم للجلوس مع الأبناء؟ أم للجلوس مع الأصدقاء والأقارب؟ أم هو وقت للراحة والاستعداد لعمل شاق في اليوم الذي يليه؟ مضيفاً: "قد تزيد نسبة الزيارات بين الأقارب واستقبال الضيوف في فترة إجازة نهاية الأسبوع، الأمر أشبه بأن يصل إلى مرحلة عدم الرغبة في الضيوف، حيث إن البعض قد يتهرب من الاتصالات والزيارات المنزلية؛ بحجة عدم الرغبة بالالتزام بهذا الضيف لمدة من الوقت"، مبيناً أن هذا الأمر لا يعني تماماً مقدار الكرم لدى الأشخاص، وإنما هو فقط عدم الرغبة بالالتزام لوجود انشغالات كثيرة تتطلب مزيداً من الوقت والتفرغ. سليمان البلوي عطية الحويطي شدى عبدالحليم لمياء خان بخيت العطاوي أحمد السعد ليش جاي وش تبي؟!