ثمة مثل قديم يقول: "الجار قبل الدار"، لذا كان كل من يرغب في امتلاك بيت في السابق ينتقي بعناية من سيجاور، وذلك لأنه سيكون هناك روابط شبه دائمة بهذا الجار نظراً لقرب البيوت وتلاصقها فيما مضى، فقد كانت الأبواب متقاربة جداً وشبه مفتوحة والصغار يتخالطون ببعضهم طوال النهار بفرح وسرور، والنساء يقمن بزيارة جاراتهن على الدوام ويتفقدن أحوالهن، كما كان الجار يبادر إلى دعوة جاره إذا كان لديه أي مناسبة حتى ولو كانت مناسبة عائلية حيث يكون الجار على رأس الحضور. والمتأمل في حال جيران الأمس في الحي الواحد يجد بينهم ترابطاً قوياً تسوده المحبة والإخاء والتسامح والترابط والتراحم، الأمر الذي أدى إلى التلاحم بينهم، وهذا الحال السائد قديماً شابته رياح التغيير التي عصفت بكل جميل في حياتنا اليومية وذلك نتيجة إيقاع الحياة المتسارع الذي شهده العصر الحديث الذي رمى بهذه الروابط والشمائل خلفه ونسي المرء في هذه الأيام جيرانه، وبات المرء يسكن في حي جديد وتمر عليه الأشهر بل والأعوام وهو لا يعرف جاره، ولا يكاد حتى يلقي عليه السلام من بعيد، فقد تباعدت البيوت في الأحياء الجديدة وتباعدت معها القلوب، فأصبح بعض أفراد المجتمع يعيش حالة عزلة اجتماعية بين الساكن وجاره، وعلى الرغم من ذلك فإنه مازال في بعض الأحياء والمدن ترابطاً بين الجيران وخصوصاً إذا كان أغلبهم من بلدة واحدة أو من قبيلة واحدة حيث يتم تبادل الزيارات فيما بينهم والسؤال عن بعضهم البعض. حياة تكافلية نادراً ما نسمع هذه العبارة في عصرنا الحاضر وهي "تسلم عليكم أمي، وتقول عطونا ملح"، أو أي غرض، بينما كانت في الماضي القريب تتردد بين الجيران بكل عفوية ويقابلها الجار بكل أريحية فما يطلب منك اليوم قد تحتاج إلى مثله أو غيره في يوم آخر، فيكون الطريق إلى الوصول إليه بطرق باب الجار لطلبه، وهذا نوع من أنواع التكافل الاجتماعي ويجري بين الناس دون خجل، وقد كانت هذه الطريق تريح رب المنزل الذي قد يغادر بيته لعدة أيام ولا يحمل هم تأمين بعض الأغراض البسيطة حيث سيلجأون إلى طلبها من الجار، فعلى سبيل المثال إذا كانت ربة المنزل تريد طهي طعام ونقصها بعض الأصناف مثل بصل أو طماطم أو زيت وما شابهها فهي ستبادر بسؤال جارتها أن تمدها به وتجد التلبية سريعة، وفي المقابل هي لا تتردد في طلب أي غرض تريده من جارتها، ومن صور التكافل بينهم المساهمة مع الجار في بناء البيت حيث كان الجميع يساهم إمّا بالعمل بيده في عملية البناء باللبن والطين، أو أن يحضر من مزرعته أخشاب أثل أو جريد نخل لسقف المنازل وعمل الأبواب والنوافذ، وكذلك كان الجيران يساعدون بعضهم في المناسبات سواء كانت مناسبات فرح أو ترح، ففي مناسبات الأفراح يسارع الجيران بل أصحاب الحي الواحد بالمساهمة ببعض مستلزمات ليلة الزواج من الفرش وأواني الطبخ مثل القدور والصحون ودلال القهوة وأباريق الشاي وحتى المداخن التي يوضع فيه البخور وبيالات الشاي والفناجين، وكان كل جار يحضر آنية أو فراشاً يضع علامة مميزة ليستطيع أن يسترجع ما أعاره لجاره. نزالة البيت من العادات الجميلة التي بدأت تتلاشى في مجتمعنا هي إقامة وليمة لمن يقوم ببناء منزل جديد ويسكن فيه، وكانت تلك الوليمة تسمى "النزالة" حيث يقوم من يبتني منزلاً جديداً بإقامة هذه الوليمة لأقربائه وجيرانه الجدد، ويقوم بذبح خروف أو أكثر تكريماً للحضور الذين يتوافدون لتهنئته ببناء منزله الجديد، وغالباً ما يقدم من يحضر هذه المناسبة هدية له، بينما يعقب هذه الوليمة دعوة الجيران له حيث يقومون بدعوته لدخول منازلهم والاحتفاء به لحلوله بينهم ويستمر يتنقل من بيت إلى آخر حتى يزور جيرانه كلهم الذين يجد منهم المبالغة في الإكرام، وبذلك يندمج هذا الجار مع جيرانه سريعاً، ويحس بأنه ضمن عائلة واحدة كبيرة، وكذلك الحال مع النساء حيث تبني المرأة علاقات جيدة وجميلة مع جاراتها التي سرعان ما تندمج معهن شراء الجوار لا تزال الجيرة بين الناس تحظى بالتقدير والاحترام والوفاء فالجار يعتبر بأن بيت جاره كأنه بيت له فهو على الدوام يراعي حرمة بيته ويتفقد جاره، وقد خلف لنا التاريخ العديد من القصص التي تؤكد ذلك فقد روي أن رجلاً أراد أن يبيع داره فلما أراد المشتري أن يشتري قال لا أسلمك الدار حتى تشتري مني الجوار، قال ومن جارك قال جاري سعيد بن العاص فأنا أبيع بيتي وأبيع الجوار، فمن الذي يشتري جوار سعيد بن العاص وتزايدوا في الثمن فقال له شخص وهو يزيد ببيته: ما رأيت أحداً يشتري جواراً ويبيعه، قال: ألا تشتري جواراً من إن أسأت إليه أحسن إلي، وإن جهلت عليه حلم علي، وإن أعسرت وهب لي حاجتي فبلغ ذلك سعيد بن العاص فبعث إليه بمئة ألف درهم حتى لا يبيعه. تعقيدات الحياة الحديثة خلقت فتوراً في العلاقات وعزلة بين الجار وجاره وقد روي أيضاً في ذات السياق أن عجوزاً بكت على ميت كثيراً وهو جارها ولما سألوها بماذا استحق ذلك منها؟، قالت: جاورنا وما فينا إلاّ من تحل له الصدقة، ومات وما فينا إلاّ من تجب عليه الزكاة. جرب الإبل وفي تاريخنا الحديث تعددت مواقف وفاء بين الجيران حفظتها الرواة وبطون الكتب ومن أشهرها قصة قديمة رواها ابراهيم اليوسف في كتابه قصة تتحدث عن الجار ومساعدة المحتاج وهذه القصة رواها له جبر بن عايد من المفضل من شمر وهو يقول إنها جرت قبل مئة عام، يقول كان ضاحي بن براك المفضلي الشمري نازل هو وبعضاً من جماعته على جو لينه أي على مورد ماء في لينه بالمنطقة الشمالية في وقت الصيف وكانت إبلهم وأغنامهم ترد على هذا الماء كل ثلاثة أيام أو يوماً بعد يوم، وفي يوم من الأيام وردت أغنامهم فنزلت عليهم مجموعة من قبيلة عنزة من أجل الموارد وكان معهم رجل يقال له المديميغ من الصقور من عنزه معه إبل كثيرة ونزل جاراً عند ضاحي بن براك وعندما ورد الرعاة آخر أغنامه وإبله وبدأ بسقيا إبل جاره الصقري حتى رويت وصار يعامله كل ما ورد بأبله قدمه على نفسه وصار يعامله المعاملة الطيبة، وفي يوم من الأيام أصاب أبل الصقري مرض الجرب أو الجدري واللذان يعدان من الأمراض المعدية ويخاف منها البادية لأنها أكبر عدو لهم ولا يوجد في ذاك الوقت علاج متوفر مثل هذه الأيام فهمّ الصقري بإبعاد حوضه الذي تشرب فيه إبله فحلف عليه جاره ضاحي أن لا يبعده، وقال يبقى في محله وما كتبه الله سيقع، وفعلاً أعطاه الله على قدر نيته فلم تصب إبله إي عدوى من هذا المرض فجمع جماعته ونخاهم فقال ابل جاري الصقريى فيها الجرب واليوم كل من عنده سمن أو علاج لهذا المرض فيحضره، فصار كل منهم يحضر ما يقدر عليه ويساعد على العلاج حتى برئت، واستمرت جيرتهم ثلاث سنوات ثم فرقتهم ظروف الحياة، فقال المديميغ الصقري العنزي أبياتاً من الشعر كرد ثناء واعتراف بالجميل لهذا الرجل وهي: يا حاشم الجيران بالخير مذكور تستاهل البيضا على راس عالي نخاه أبو فرحان مع فجه النور صاب الجرب لمعبسات الشمالي قصيركم ما عنه يالربع مذحور خلوه يقرب من فسيح الضلالي صكوا بي الفضلان لكنهم سور عدى ولد عم حشيم وغالي لا يا بعد عفن على الراس ناطور يا مرخص العشرين وخمس اجلالي ضعف العلاقات وتشهد أيامنا الحالية فتوراً بل ضعفاً في العلاقات بين الجيران، وذلك بسبب تعقيدات الحياة والانشغال الدائم بمتطلباته، خصوصاً بعد انتقال الناس للحياة في الأحياء الجديدة ذات الشوارع الواسعة والبيوت الكبيرة والمتباعدة، وبات أكثر الناس يدخل إلى بيته بسيارته عبر البوابة الكهربائية، فلا يتسنى له رؤية جاره يدخل أو يخرج من باب بيته، وقد يسكن إلى جواره جار جديد فلا يعرف اسمه ولا يندمج معه، ويرى أن في سؤال جاره عن اسمه وعن عمله انتهاك لخصوصيته، وبذلك صار الجار لا يعرف عن جاره أي شيء، والمصيبة بأنه قد يحصل للجار مكروه وهو داخل منزله فلا يجد من ينقذه وذلك لانشغال كل بنفسه فقط، بل تعدى الأمر بأن يتعرض بيت الجار إلى السرقة ولا يحس الجار بذلك، كما حدث لأحد الجيران الذي رأى سيارة نقل بها عمالة وافدة تقوم بنقل المكيفات من بيت جاره فلما رآهم سألهم ماذا تفعلون فقالوا نحن محل صيانة وقد أوكل لنا جارك بفك مكيفات بيته وصيانتها ومن ثم إرجاعها فقال لهم: إذاً تعالوا إلى منزلي وخذو مكيفاتي لتقوموا بصيانتها أيضاً وإرجاعها بعد ذلك مع مكيفات الجار فقاموا بذلك مسرورين، وبعد مدة طويلة استبطأ الجار عودة مكيفاته فذهب وسأل جاره الذي لم تكن بينهم أي روابط وسأله عن مصير مكيفات بيته التي أعطاها لمحل الصيانة التي أخذت مكيفاته، فقال له جاره: بأن من أخذها هم مجموعة من عصابات السرقة استغلت عدم وجوده بالبيت، فعلم الجار بأنه قد وقع فريسة لعصابة سرقة قام هو بمساعدتهم على سرقتها ببلاهة، ولو كان له روابط مع جاره لما حدث هذا. ومن المواقف المحزنة أن جاراً كانت زوجته حاملاً وفي ساعة متأخرة من الليل فاجأها المخاض فقام الرجل بنقل زوجته على وجه السرعة إلى المستشفى بعد أن أوصد الباب على أبنائه الصغار على أمل أن يعود إليهم بعد أن يوصل الزوجة إلى المستشفى فهو لا يعرف جيرانه وليس بينهم أي تعارف، فخاف أن يزعجهم وفي الطريق إلى المستشفى وقع له حادث فتوفاه الله، أما الزوجة فقد أصيبت إصابة خطرة أدخلت على إثرها العناية المركزة لعدة أيام، فلما أفاقت وقد فقدت جنينها في الحادث وعلمت بوفاة زوجها طلبت المغادرة سريعاً إلى المنزل لتقضي المفاجأة على ما بقي منها فقد وجدت أبناءها الصغار خلف باب المنزل وقد ماتوا عطشاً وجوعاً. خلك في حالك يبدو أنه في زماننا الحاضر وفي ظل صعوبة الحصول على مسكن وذلك لارتفاع كلفة البناء بعد أن صار الغالبية من الناس تبتني بيوتاً كبيرة تفوق الحاجة ويكون تشطيبها وتأثيثها باهظ الثمن، خصوصاً لمن يلهث وراء الموضة والتقليد بات شعار الناس يخالف المقولة الشهيرة التي تقول "الجار قبل الدار"، وصار الناس يبحثون عن الدار قبل الجار، وخصوصاً في المدن الكبيرة والمكتظة بالسكان، وباتت علاقة الجيران ببعضهم سطحية لا تتعدى السلام من بعيد وابتسامة المجاملة المعتادة في كل لقاء عفوي، بل تعدى الأمر ذلك إلى توتر العلاقات مع الجيران لأتفه الأسباب، وعلى سبيل المثال الاختلاف على وقوف السيارات أمام باب الجار التي أولدت الكثير من المشاحنات بين الجيران فإذا ما حدث ذلك لأحد الجيران فان الدنيا تضيق بما رحبت فتراه يقيم الدنيا ولا يُقعدها، حيث يبدأ بافتعال مُشكلة وبانفعال كبير ولا يهدأ إلاّ إذا تم تحريك السيارة إلى أبعد مكان من بيته حتى يهدأ بركان غضبه، وحتى لا يفاجأ الجار بإفساد أحد إطارات سيارته إذا لم ينصع للأمر، وبهذا فقدت الجيرة لذتها في هذا الزمن إلا لدى القلة، وصار الناس بدل أن ينعموا بحسن الجوار فإنهم يأملون بأن لا يحصل لهم أذية من الجار، فما أحوجنا إلى الرجوع إلى حسن الجوار والتمسك بحقوق الجار، وأن نبدأ بالحلول العملية ومن أهمها اتفاق الجيران على لقاء أسبوعي في يوم محدد، فإن ذلك سيكون له عظيم الأثر في الترابط والتعاون والود وكسر لجميع الحواجز وهذا مجرب في كثير من الأحياء وآتى ثماره الطيبة على الجميع، كما أن علينا أن نبادر إلى مد يد العون إلى الجار والتعرف عليه ومساعدته في كل طارئ ولا ننساق خلف من يقول المقولة العامية "خلك في حالك"، بل إن علينا أن نكسر روتين الحياة الممل الذي أنسانا حتى حقوق أقرب الناس ألينا من ذوي الأرحام. جيران الأمس تربطهم المحبة والألفة والنفوس الطيبة زيارات النساء لبعضهن قديماً كانت بشكل يومي بيوت زمان مفتوحة بين الجيران بدون حواجز إيقاع العصر الحديث تغيّر فتباعدت القلوب والنفوس بين الجيران الجيران قديماً يحرصون على تفقد أحوال بعضهم توسع المدن وزحام الطرق صعّب من فرص التواصل بين الجيران والأصدقاء