أ.د. حمزة بن سليمان الطيار إن من المسلمات الثابتة توقف الصدارة على حصول أسباب الجدارة، والناس مختلفون في تعيين معايير بها يُقدّمون، وعلى المستوفِي لها يعتمدون، لكنهم متفقون في الجملة على أن التقدم لا ينساق اعتباطاً، بل لا بد له من سبب يكون له مناطاً. إن السيادةَ والرياسةَ والعُلى ... أعباؤُهنَّ كما علمْتَ ثِقَالُ وهذا أمر متقرِّر في الفطرة، مركوز في الجبلة، فلولا مرارة المشاقِّ الممزوج بها كأس الصدارة، لاحتساها كل الناس، ولكان البشرُ سواسيةً في مقاماتهم. لولا المَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كلُّهُمُ ... الجُودُ يُفْقِرُ والإقدَامُ قَتَّالُ ومن حكمة الشريعة الإسلامية ووضعِها الأشياءَ في محالِّها اللائقةِ بها أن جعلت للتصدر مقوّماتٍ يُسْتحَقُّ بها، فكل ما يستوجب التقدم لا يُزَاوِلُهُ إلا من تأهَّل له وفقاً لضوابط معينة، وشروط مقررة، فللأولوية بالإمامة في الصلاة شروطها، وللولايات العامة كالإمارة، والقضاء، والتعليم شروطها، ولا يخفى الضررُ الكبير المترتب على تصدر حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، وما في ذلك من غش للمجتمع، ولَبْسٍ للحق بالباطل، ولنعتبرْ حال من تعالم، وتحدث في الأمور الدينية، والاجتماعية من غير أدنى دراية بها بحال من يتطبَّب، ويعالج المرضى من غير إلمام بعلم الطب، فكما يهدُّ هذا المتطببُ الأبدان، ويفتك بالناس، كذلك يجني ذلك المتعالم على دين الناس، ومستقبل حياتهم، فيُملي عليهم من الخُزَعْبِلات، والتُّرَّهات ما إذا تأثروا به عدلوا عن الطرق السوية، وتخبطوا في ظلمات الأهواء المرْدية، فمن قاده الأعمى اقتحم به المتالف، وتردَّى به في المهالك. أعمى يقودُ بصيراً لا أبَا لَكُمُ ... قد ضَلَّ مَنْ كانتِ العُمْيانُ تَهديِهِ وإذا كان تعاطي الصدارة بجهود المُتَسَوِّرِ وحده ومن تلقاء نفسه، فلا يعدو الأمر أن يكون نزوة جامحة من نزوات النفس، فتتقدر أضراره بقدر ما عند الشخص من إمكانات إيصال صوته إلى الناس، وعرض بضاعته المغشوشة عليهم، ومن شأن ذلك أن يكون محدود الأثر نوعاً ما، لكن المعضلة أن يكون مُتبنى من قبل جهات تلمّعه وتحيطه بهالة من زخرف الأوصاف المكيلة جزافاً؛ ليكون مطية لها تُمرِّرُ من خلاله ما تريد، وقد تعمدت هذه الجهات تجاهل ما يُوجدُ في مجتمعنا من العلماء وطلبة العلم وحملة الشهادات العليا في كل تخصص وفن، ولم تكتف بذلك، بل تحرَّتْ تصديرَ من لا يحمل شهادة الثانوية، وازداد البلاء حين يُغرَّرُ بالمتلقين، ويُخدَعُ القراءُ والمشاهدون بأنَّ هذا، أو ذاك يحمل مؤهل الدكتوراه، والواقع أن الدكتوراه منه مناطَ الثريا، والعجب الذي لا ينقضي أن من هؤلاء من صدَّقوا أنفسهم، وصدَّقوا من غرَّر بهم، فأعجبوا بأنفسهم، واعتدُّوا برأيهم، وجهلوا أنهم جهالٌ جهلتَ وَمَا تَدْرِي بأنك جَاهِلٌ ... وَمن لي بِأَن تَدْرِي بأنك لَا تَدْرِي فصاروا يتطاولون على مسؤولي الدولة الفضلاء، وعلماء الأمة الأجلاء، ويصفونهم بأقذع الأوصاف، ويتهمونهم بأبشع التهم، وينصبونهم مرمى لسهامهم الخبيثة، وهدفاً لهجماتهم المشينة، فما الذي أُورِدُهُ أو أَدعُهُ من تلك الكلمات الساقطة، والعبارات الهابطة التي والله لا تصدر إلا ممن قلَّ حظه من التقوى، ونَزُرَ نصيبه من الخلق والحياء؟ ثم بعد ذلك يتنصَّلون من ذلك بحذف حساباتهم، وموقع تعديهم وتطاولهم، فلا هم بالبررة الأتقياء، ولا الفجرة الأقوياء، "مُذَبْذَبين بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ"، ولا يستغرب هذا من نظرائهم، فسفاهة الحلم، وحداثة السن، وقلة العلم أسبابٌ رئيسةٌ لجرائم الإرهاب المحرمة شرعاً، والمسخوطة فطرةً، وعقلاً، والتي جاء ذكرها في الحديث الشريف وصفاً للخوارج، فمن المنتظر أن تكون سبباً لما هو مثلها، أو دونها، كتطاول أؤلئك الأقزام على تلك الجبال الشامخة، وإنهم وإياهم لكما قيل: يا ناطحَ الجبلِ العالي ليُوهِنَهُ ... أَشفقْ على الرأسِ لا تُشْفِق على الجبلِ ويجب أن لا تذهب تصرفاتهم هباءً، وأن لا ينجوا من تبعاتها، فإن من يسعى لضرب مكانة مسؤولي الدولة الكرام، وعلماء الأمة العظام لدى العامة فهو مفتونٌ يشدُّ في عضد الفساد، وباغٍ يؤجج نار الفتنة والشتات، فإذا فقد المجتمع -لا قدر الله- الثقة بهذين الفريقين الكريمين فما الذي يتبقى؟