أياً كانت نتائج الفراغ الذي تركه غياب شارون في مرحلة انتخابات دقيقة بالنسبة للحسابات الإسرائيلية، فهي لا تبلغ حجم المخاوف الناشئة في الشعب الفلسطيني، نتيجة للتفرّجية العربية على مصير الفلسطينيين يتقرر إلى حد ما في الانتخابات نفسها، ذلك ان مفهوم المقاومة نفسه في بعض البلاد العربية القريبة من فلسطين يكاد يتحوّل معناه عند المواطنين ليصبح مجرد احتياط لخطر ممكن يفتقر إلى الجهوزية لدفع هذا الخطر وهو يتحول إلى هجمة احتلال عسكرية. مما يسبب لبعض البلاد العربية مشاكل شائكة على غرار ما شكله في فترة من الفترات وضع المقاومة الإسلامية في لبنان. لم يسبق ان اعتزلت الحكومات العربية الاهتمام الجدي بموضوع التقارب الفلسطيني الفلسطيني على أرض فلسطين كما هي تفعل الآن ولولا التدخل المصري بين آن وآخر على الساحة الفلسطينية وهو المسموح به عرفاً من قبل إسرائيل لازدادت الخلافات الفلسطينية تفاقماً. والواقع ان بقاء الاهتمام العربي، هزيلاً كما هو الآن في الساحة الفلسطينية الداخلية يكاد يصبح ظاهرة اعتزال مشينة بأغلب الحكومات العربية، بل والشعوب العربية وياليته كان ممكناً تفسير ذلك بأنه احترام للإرادة الفلسطينية بقدر ما هو في رأي البعض تخل عن رأي قومي. كل ذنب يهون في نضال شعب من أجل تحقيق ذاته بالقياس إلى خيانته للفجر الذي انطلق منه لكأن خيانة الفجر هذه هي وحدها الخيانة لأنه، أي الفجر، كان الولادة وما كانت الولادة لتكون إلا مرة واحدة. إنها قصة فتح أبي عمار انطلقت معه ومع الرعيل الأول من أخوانه وما عاد بعدها من إمكان إلا للعطاء والعطاء حتى النصر أو.. الاندحار التاريخي. لعلنا نحن في لبنان على وفرة ما شكوناه ونشكو منه في أوضاعنا ومواقفنا نبقى في عيون أنفسنا على الأقل، الأقل شعوراً بين أخواننا العرب بالتقصير نحو قضية أعطاها شعبنا من هناءته وأمنه ما كاد يذهب به، إذ تفانى شعب لبنان حتى كاد يفنى كما قال أحد رؤساء حكوماته تقي الدين الصلح في يوم من الأيام وبين ما استطاع شعب لبنان ان يفعله في وجه الصهاينة هو جرّ أحد جبابرة الحركة الصهيونية ارييل شارون إلى المحاكمة في بلجيكا وذلك بفضل دعوى نظمها المحامي اللبناني شبلي الملاط ضده، فألبس شارون بذلك عار التاريخ ولكنه من جهة ثانية كان أحد الأسباب التي طورت عقلية شارون بما جعله يظهر في الفترة الأخيرة، أي قبل دخوله المستشفى مؤخراً بمظهر رجل الوسط لا التطرف المطلق في الساحة السياسية الإسرائيلية. ما لابد من تسجيله أن الغالبية العظمى من حكام البلدان والدول الإسلامية عامة، ان القضية الفلسطينية والتعهدات بالعمل لها كانت سرّ وصول الغالبية العظمى في الطبقات الحاكمة في البلاد الإسلامية إلى الحكم، سواء في افريقيا أو آسيا أو في البلقان إلى حد ما حيث كان التعهد بخدمة القضية الفلسطينية سبب وصول الكثرة الكاثرة من الحكام المسلمين إلى كرسي الحكم. وإذا كان المسلمون العاديون في بلدانهم لا يعرفون دائماً هذه الحقيقة فإن الطبقات السياسية نفسها في أكثرية هذه البلدان ذات علم بشكل أو آخر بهذه الحقيقة، وذلك بالمعنيين الايجابي والسلبي. كل هذا واضح وإذا عدنا إلى فلسطين نفسها الآن، حيث المؤامرة الكبرى مستمرة في تصاعد على الهوية العربية، وعلى الدينين الإسلامي والمسيحي العربيين معاً وكلنا يذكر أن فتح نفسها قبل خصومها الإسلاميين اليوم كانت حركة يغلب عليها الطابع الإسلامي بل إنها قبل ان تصبح معروفة خارج دوائر معينة كانت حركة إسلامية وما كان يجهل ذلك أحد من كبار المسيحيين من ابناء فلسطين بل كانوا موجودين بكثرة في كل مكان، في السياسة والصحافة والاكليروس وكان من أول شهداء القضية الفلسطينية المطران حجّار اللبناني من قرية قيطولي في الجنوب الذي كان أحد أبرز الذين اغتالتهم الحركة الصهيونية منذ أوائل النضال العربي الداخلي أيام الانتداب الانكليزي على فلسطين. حركة فتح كانت واعية منذ البدء مثلما هي حماس اليوم لأهمية العامل الديني الإسلامي بل والمسيحي ايضاً. ليس من الظواهر غير ذات الدلالة ان تكون الحركتان الأساسيتان اللتان تناضلان اليوم في سبيل الحفاظ على عروبة فلسطين هما فتح وحماس. تميزت حركة فتح بأنها نظرت إلى نفسها لا على أنها حزب فلسطيني فحسب بل بأنها بمثابة البيت الفلسطيني لكل فلسطيني وكل ما هو فلسطيني، اهتمت بأن تكون البيت الذي يستقبل أناساً من كل الفئات وكل الأديان وكل الطبقات بل وكل الحساسيات أيضاً المحلية أو الدينية أو العمرية أو الاجتماعية. صاغت نفسها منذ اليوم الأول على أنها ذلك البيت الذي يشبه البيت الفلسطيني الكبير حيث لكل ابن من ابناء فلسطين من أي طبقة كان ومن أي طائفة ومن أي مستوى اجتماعي أو ثقافي مكان فيه. لقد كانت هذه الفكرة بالذات فكرة الحركة البيت لكل أبنائها هي السبب الذي أعطى الحركة حرية التعامل مع أي فرد فلسطيني كان على انها مفصلة منذ البدء لاستقباله عضواً فيها وكما هو بنظر نفسه ومحيطه لا منحوتاً نحتاً خاصاً كما تنحت بعض الأحزاب المنتسبين إليها بل وتشترط عليهم ايضاً شروطاً ضيقة من شأنها ان تشعرهم بالغربة تجاه محيطهم الذي هم فيه ولدول وعلى قيمه ومفاهيمه نشأوا. لم تستطع حركة فتح ان تكون الوحيدة في الساحة الفلسطينية فقد ولد وفي الساحة نفسها مناضلون آخرون لا يقلون عنها في النفس النضالي ولا في الولاء للقضية، فالجبهة الشعبية مثلاً نافستها منذ اليوم الأول بالاستعداد نفسه للفداء من أجل فلسطين، بل ان الجبهة الشعبية تفوقت عليها في الأجواء على الأقل حيث ابتكرت هذه الجبهة المناضلة اسلوب خطف الطائرات الذي كسبت به خيال المناضلين على طول العالم الثالث وعرضه وأصبح لها أصدقاء واخوة في الجهاد في كل قارات العالم، ولكن ظلت فتح هي البيت لكل فلسطيني ولم تترك الجبهة مكاناً في صفوفها إلا للمناضلين المنحوتين نحتاً خاصاً من حيث ثقافتهم «العالم ثالثية» ومن حيث مستواهم الجامعي الرفيع في كثير من الأحيان، ومن حيث انفتاحهم على الدور البطولي النسائي بصورة خاصة وقد يستطيع المناضل من الجبهة الشعبية أن يعدد جامعيات من رفاقه في النضال بأكثر مما يستطيع الفتحاوي، في العنصر النسائي على التحديد، ولكن ظلّت فتح هي الأشبه بشعبها الفلسطيني في مزاياه وفي تكوينه الأهلي وفي معتقداته ربما الشعبية غير المتميزة عن الفلسطيني الطبيعي بكل ما له و ما عليه. ربما جاز تشبيه الفرد في الجبهة الشعبية بالمبيضَّة من نسخ دفتر أو كتاب، ولكن فتح قبلت النسخ البشرية كما هي مبيضة ومسودَّة. ولعلها بذلك شابهت شعبها الفلسطيني بنقاط ضعفه ونقاط قوته معاً بينما وقعت الجبهة الشعبية من حيث لا تريد بالنخبوية، لذلك ظلّت فتح هي أم البيت الفلسطيني. الأمر الآن بين فتح وحماس يشبه في بعض الوجوه ما كان بينها وبين الجبهة الشعبية ولا يزال. فمن يراقب حماس في علاقتها مع فتح يخرج بالنتيجة نفسها التي وصل إليها عند المقارنة بين الجبهة الشعبية وفتح. فكما ظل مفتاح البيت الفلسطيني في يد فتح بالمقارنة بينها وبين الجبهة الشعبية كذلك ظلّت فتح هي البيت الفلسطيني بالمقارنة مع حماس أيضاً. ربما استطاعت حماس أن تبزّ الجبهة الشعبية في طابعها الإسلامي بالمقارنة مع علمانية الجبهة الشعبية ولكن حماس لم تستطع أن تزايد إسلامياً على فتح لأن فتح هي أيضاً ذات منشأ إسلامي. وأهم من ذلك أن فتح نظرت إلى نفسها منذ البدء على أنها البيت الفلسطيني الذي لكل فلسطيني فيه حجر وزاوية. قد تستطيع حماس أن تنشئ حزباً فلسطينياً واسع المدى والصلات، وقد تستطيع أن تخرّج مجاهدين وفدائيين وقياديين ولكنها سوف تبقى لبعض الفلسطينيين أكثر مما هي للبعض الآخر أما فتح فتظل هي بيت الفلسطيني كل فلسطيني، متديناً كان أم علمانياً، مسيحياً كان أم مسلماً يمينياً أو يسارياً. كما أن فتح كانت قد أصبحت منذ زمن بعيد بيت المسيحي الفلسطيني بقدر ما هي بيت المسلم الفلسطيني. وإذا كانت حماس نشأت وظلت حركة إسلامية، فإن فتح فوق إسلامها جذبت بصورة البيت الذي أصبحته المسيحي الفلسطيني والعلماني الفلسطيني بالإضافة إلى المسلم الفلسطيني وغير الفلسطيني أيضاً. وكان من جملة ما جذب به أبو عمار سحر الثوب الرسمي الذي يبقى ذا جاذبية كبيرة لبعض العقليات التي تحب السياسة لكونها مرادفة للسلطة ولفن الحكم، فقطاعات واسعة من الناس لا تحب إعطاء الخبز إلا للخباز ولا يسحرها من أنواع المقام مثل مقام الرئيس والوزير والنائب، فللسياسة المرادفة لفن الحكم سحر أعطاه أبو عمار لنفسه حين قال وردد: أنا حكمت لبنان، فاستهوى بذلك ذلك القطاع الواسع من الناس الذين لا يفصلون العمل السياسي والنضالي عن أصحاب الكار، والذين يعتقدون أن السياسة لا تجوز إلا لأهلها وأنها في كثير من الأحيان تتلخص بفن إعطاء الأوامر وقيادة الجمهور للطريق الذي فيه صلاحه وهو لا يعلم. ولهذا فادت العامة في كثير من الأوقات قادتها بكلمة «يا معلم» الدارجة على ألسنة الشعبيين من الناس. وكان من فنون أبي عمار التي لا تعد ولا تحصى أنه فطن إلى هذه الفئة الخاصة من الناس التي تعتقد أن للسياسة أهلها وأن السياسة هي كار كغيره من الكارات وأهلاً بأبي عمار مادام هو ابن هذا الكار، كار السياسة، ورحم الله أبا عمار الذي جعل من فتح بيتاً لكل فلسطيني غير قابل للهدم وجعل من نفسه الشاطر حسن حلاّل المشاكل المتكلم كل اللغات ومن جملتها الثقة بالمرجع وفقاً لقول القائل: أعط خبزك للخباز ولو أكل نصفه. وهكذا كان أبو عمار صاحب الجاذبية الكبرى للشعب الفلسطيني من كل الطبقات والأعمار، وكل ما في السياسة من فنون ومصالح.