المطر حلم العربي دائماً نائما أو يقظان، المطر للعربي أكثر من حياة: نشوة وفرح وحبور. العربي يحتاج المطر حاجته للشعر، المطر والشعر يهزان أعماق وجدانه، يثيران دهشته، ويسافران بأحلامه في رحلة لا تضع حقائبها. الشيء الوحيد الذي يعيدنا إلى طفولتنا هو المطر.. حين يهطل المطر نعود أطفالا جذلين.. المطر لا يزال قادرا أن يعيدنا نحن العرب رعاة وأرباب بيوت شعر.. المطر يعيدنا شعراء، أو مشتاقين للشعر، والمطر بحد ذاته شعر ولقد وضع له العرب - حباً فيه وإجلالاً - مئات الأسماء من الغيث إلى الهتان والوبل والعارض والقطر والرهام والسح والعارض والوسم والودق والرذاذ والديمة.. ومن فرح العرب بمقدم السحاب وضعوا له أسماء وأسماء، من الغمام إلى الدجن إلى الوكاف والجهام والديم، وكانوا يقولون (نهار الدجن قصير) لأنهم يفرحون بالنهار الذي غطى شمسه السحاب، وكلما اعتم وأظلم كان أحسن! المطر للعرب أكثر من حياة.. ٭٭٭ ولا يمكن أن تجد في أي أدب آخر ما تجده في الأدب العربي من وصف السحاب والبرق والرعد والأمطار، لأن العرب يعشقون المطر، ولأنهم محرومون من معشوقهم، فهو جميل بخيل لا يزور الا من الحول إلى الحول، فيزيد حبه في القلب ويضطرم الشوق، وما الحب اللاهب الا ابن الحرمان، فاذا زار المطر المحبوب بشت الوجوه ورقصت القلوب في عرس الطبيعة البهي. ٭٭٭ ومن أجمل الشعر في وصف البرق والمطر القوي قول امرئ القيس: أصاح ترى برقاً أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل يضيء سناه، أو مصابيح راهب أمال السليط بالذبال المفتل فأضحى يسح الماء حول كنيفه يكب على الأذقان دوح الكنهبل وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ولا أطما الا مشيدا بجندل كأن بثيرا في عرانين وبله كبير أناس في بجاد مزمل كأن ذرا رأس المجيمر غدوة من السيل والغثاء فلكة مغزل كأن مكالي الجواء غدية صبحن سلافا من رحيق مفلفل كأن السباع فيه غرقى عشية بأرجائه القصوى أنابيش عنصل إن الشاعر العربي منتش بهذا المطر رغم (غرقة) طوفان.. قد قلع النخل والشجر.. وغطى جبل «ثبير» الكبير فلم يبد الا رأسه كأنه شيخ بدو معمم، هذا السيل العرم قد كب على الأذقان دوح الكنهبل وبدت في أرجائه القصوى السباع غرقى طافية كأنها جذور نبات خاوية، السعيد بهذ ا الطوفان هو إنسان الصحراء ومكاكي الجواء، تلك الطيور التي تغرد مع تباشير الصباح كأنما أسقيت خمراً، والشاعر وهو يرى هذا المشهد الطبيعي الرائع المروع الشاعر (مرأى هناك من الحياة ومسمع) كما يقول جاهلي آخر.. انه فيلم تسجيلي مدهش سجلته عين امرئ القيس الشاعرة فاذا بنا أمام لمع البروق تشق الدجى اولا ثم تنشق السماء عن مثل القرب فتغرق الأشياء والأحياء وتزيل قشرة الارض، ثم ينجلي السحاب بعد المطر الغزير فاذا بنا مع سيمفونية من تغريد الطيور الجذلى ونشوة الشاعر والمشاعر. ٭٭٭ إن أرض نجد 0 من دون أراضي الله الأخرى - أبهج ما تكون هي وأهلها بالمطر.. لا بحر في نجد ولا أنهار.. صحار شاسعات ظامئات.. وجفاف. شوق الصحارى للمطر لا يقل عن شوق الأهالي.. في قديم الزمان وحديثه.. خاصة ان ارض نجد اذا جادها المطر هي أطيب أرض في نبتها ونسيمها وروائح عرارها وخزاماها وأقحوانها: أقول لصاحبي والعيس تهوي بنا بين المنيقة فالضمار تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار الا ياحبذا نفحات نجد وأنت على زمانك غير زاري شهور ينقضين وما شعرنا بأنصاف لهن ولاسرار ٭٭٭ ومن الشعر الشعبي في وصف المطر قول العريني: سقوى إلى حقت علينا السحابه واخضر كل معذر من هضيبه ووادي حنيفه مد حبل الرجابه جمه على الطيه يخضه عسيبه وديارنا اللي في ملاقي شعابه يرجع لها عقب الشهابه عشيبه حتى النخل يشتاق حي مشى به باطراف سبحاته تنوح الربيبه يستسقي الله عز وجل مطرا غزيرا تخضر له كل الهضاب (واذا اخضرت الهضاب العالية فالمطر كثير) ووادي حنيفة الكبير يسيل ويفيض حتى إن الآبار التي حوله تفيض من (جمه) ويكنى عن شدة فيضان الآبار بأن عسبان النخل القصير تلمس ماء البئر! ووادي حنيفة اذا فاض وسال عم بخصبه وخيره كثيراً من مزارع نجد وقراها وأرضها حتى تصبح الأرض الشهباء جنة خضراء من حرير العشب، ويبتهج كل من يمشي في النخل الممطور، حتى الحمام يغرد سعيدا بهذا الجو.. وهناك قصيدة رائعة للشاعر الشعبي الفذ محسن الهزاني في وصف السحاب والمطر: خلاف الجفى والهجر والياس والرجاء بالاقدار يسقي دار وادي المجامع سبعة ايام على يوم ثامن بنجم الثريا ثم بالصرف تابع بنو عريض حالك اللون مظلم منه الفرج يرجى إلى شيف طالع لكن ربابه حينما ينشر السدى جنح الدج، ريلان صم المسامع نهاره كما ليل بهيم وليله نهار من ايضاح البروق اللوامع إلى ما غشا وقت العشا بعدما نشى حباله من المشرق نسيم الذعاذع حاذا الى هذا وهذا رفى لذا وهذا لهذا بالموازين تابع وزلزل وعزل به رباب ونزل بسجر ونجر مثل ضرب المدافع وخيم كما الحندس وغيم وديم وغطى ما وطى منه، الوطى والمرافع وثور غبار الأرض من ضرب ودقه وضجن منه الجازيات الرواتع بسح وتسكاب إلى حيث ما يجي له الحول والما في خباريه ناقع إنه شعر بارع التصوير في جرسه وتراكيبه وألفاظه ومعانيه، فهو يصف كيف يسوق الريح السحاب الى بعضه حتى يتراكب ويتراكم، ويجعل النهار كالليل لسواده وحجبه كامل الشمس، ويجعل الليل كالنهار لتواصل برقه وشدته، وكيف بدأ هذا السحاب بطرد الجهام «السدو» وهو ظل سحاب كالسراب لا مطر فيه، حيث أقبل السحاب الهتان فبدد الجهام وطرده من الآفاق، ثم بدأ السحاب المثقل بالمطر يقترب من بعضه تسوقه الريح ويلهبه الرعد والبرق، حتى صار السحاب متراكما قد جعل الآفاق ظلمات بعضها فوق بعض، لا ينير ظلماتها الا لمعان البروق الخاطفة كالسيوف القاطعة، ثم زلزل الرعد ذلك السحاب المثقل بمثل ضرب المدافع وكأن البروق نار البارود من ذلك الرصاص المنطلق من مدافع الرعود التي تضرب أكباد السحاب من كل صوب، حتى انهال بمطره الغزير على الأرض موصولا مضروبا بمدافع الرعد ورصاص البروق ليتتابع ويندفع ويزداد ويعم، حتى وطى الارض كلها وجعل مرتفعها كواطيها، وسوى عاليها بسافلها، وضجت منه حتى الوعول في أعالي جبالها، مطر كالطوفان تجري معه الوديان شهورا وتمتلئ السهول، وتظل غدرانه موجودة في مطامن الارض بعد عام..! ٭٭٭ وإذا كان شعر امرئ القيس ومحسن الهزاني عن مطر هائل، يذكر بالطوفان والزلازل، فاننا نختم بشعر رائق أنيق: وروض عن صنيع الغيث راض كما رضي الصديق عن الصديق يعير الريح بالنفحات ريحاً كأن ثراه من مسك فتيق كأن الطل منتشرا عليه بقايا الدمع في الخد المشوق (يتبع)