الإنسان بلا خيال كنظارات بلا عينين، فالخيال هو الذي يغوص على المشاعر ويدخل في السرائر والضمائر ويسافر بصاحبه إلى أنحاء الدنيا وهو جالس، والخيال هو روح الشعر ومن دونه يصبح الشعر جسداً بلا روح، مجرد نظم ممجوج. كأن السباع فيه غرقى عشية.. بأرجائه القصوى أنابيش عنصل (أمرؤ القيس في السيل) وقلنا - في القسم الأول من المقال - ان الشعراء القدماء أكثر خيالاً وأغزر صوراً من الشعراء المحدثين، لأن اختراع السينما والتلفزيون قص أجنحة الخيال إلى حد بعيد، وحد من ملكة التدقيق والتصوير، لأن التلفزيون يحبه الإنسان بالواقع المحسوس، ويصدم خياله بالحقيقة المباشرة، ويعدم شدة اللهفة المتماوجة المتمازجة من أحلام اليقظة وريشة الفنان، أما قبل وجود السينما والتلفزيون فقد كان الخيال مرهفاً لدى الشعراء، صافياً في التقاط الصور، قادراً على تفصيل المشاهد في وصف متحرك يشبه الأفلام التوثيقية التي أخرجها فنان، ويمتاز عنها باتساع المدى واندياح الآفاق، فإذ يتقيد مخرج الفيلم التوثيقي بما تلتقطه الكاميرا مهما دقق في الاختيار وأبرز الجوانب المعبرة وعلق عليها بالعبارات الأدبية، فإن الشاعر الموهوب لا يحد كاميرا الخيال عنده حدود، ولا تقف أمام مشاهد مقننة، قانون الخيال ليس له قانون.. هو حر طليق.. كالخيول البرية تعدو في الصحراء وتمرح في الطبيعة كما تشاء. يقول امرؤ القيس في وصف متحرك لسيل عرم أصاب جزيرة العرب في الجاهلية: «أصاح ترى برقاً أريك وميصه كلمع اليدين في حبيّ مكلل يضيء سناه، أو مصابيح راهب أمال السليط بالذبّال المفتل فأضحى يسح الماء حول كتيفة يكب على الاذقان دوح الكنهبل ويتماء لم يترك بها جذع نخلة ولا اطما الا مشيدا بجندل كان ثبيراً في عرانين وبله كبير اناس في بجاد مزمل كأن ذرى رأس المجيمر غدوة من السيل والغثاء فلكة مغزل والقى بصحراء الغبيط بعاعه كصدع اليماني ذي العياب المحمل كان مكاكي الجواء غدية صبحن سلافاً من رحيق مفلفل كأن السباع فيه غرقى عشية بأرجائه القصوى أنابيش عنصل» فهذا السيل قلب الدنيا عاليها سافلها والشاعر يراقبه مدهوشاً يصور بخياله المتحرك ما يسجل الصور على مر الدهر، فالجبل العظيم لم يظهر إلا رأسه كأنه رأس شيخ قوم، أما الأشجار الهائلة فكبها السيل على الأذقان، وغطى الربا، وساوى المرتفعات بالمنخفضات وأغرق السباع المفترسات حتى طغت على بحره جثثاً صغيرة كأنها من بعيد وفي محيطه الكبير مجرد جذور بصل بري، الوحيدة السعيدة بهذا المطر الهائل هي طيور المكاكي التي أخذت تغرد كأنها سكرى، الشاعر أيضاً سعيد بهذا المنظر المهول الفريد.. دائماً يسعد العربي بالمطر ولو دربى الشجر والحجر! *** وتحس أنك في عرس مبهج حين يقول ابن الرومي يصف صبا نجد وقد مرت كنسيم النعيم: هبت سحيرا فناجى الغصن صاحبه موسوساً وتنادى الطير اعلانا ورق تغنى على خضر مهدلة تسمو بها وتشم الأرض أحيانا تخال طائرها نشوان من طرب والغصن من هزه عطفيه نشوانا انه عرس الطبيعة صوره الشاعر في لوحات رائعة بديعة.. *** وفي وصف حصان عربي يعدو بسرعة مذهلة يقول شاعرنا الشعبي ابن سبيل: يجفل إلى زول مع الحزم زيلان ما يدركه بالمشي رقط الجناح يشدي قطاة طالعت حوم عقبان صرت وصاعتها هبوب الرياح فمع ان القطاة أسرع الطيور طيراناً إلاّ ان شاعرنا المبدع لم يكتف بتشبيه ذلك الحصان الأصيل وهو يعدو بطيران القطاة، بل قدم لنا وصفاً متحركاً، مبتكراً وصورة مركبة جميلة فشبه سرعة هذا الحصان الأصيل بشدة طيران قطاة لحقها عقاب وتقفتها ريح ضاعفت سرعتها في هروبها من مخالب العقاب! ويقول الشاعر والفارس المشهور راكان بن حثلين في وصف رماح قومه: ومواصيل بارقاب القنا كن وصفها الاسن سلق متعبتها طرودها شبه حركة الرماح في سرعة ذهابها وايابها بسرعة السنة السلق التي تعبت من شدة طرد الصيد وهو تشبيه متحرك رائع. وقال في وصف جواده: على جواد مثل ظبي الرمال مثل العنود اللي ترب العثامير العنق عنق اللي شطتها الغزال واذنين مثل مغلقات الكوافير والصدر خزقين من البز غالي أو باب حضر ربعوه النجاجير وذرعان مثل مليحات السيال وسيقان مثل مهدفات النواعير فاختار لأجزاء جواده أكمل الأوصاف المناسبة لمقتفى الحال، حتى أذنيه مثل طلع النخل حين ينشق. الخلاصة ان الوصف المتحرك والمفصل من روائع الإبداع.