فالجامعة مؤسسة بيروقراطية أشد من أي مؤسسة أخرى والوزارة مثلها وتشجعها على البيروقراطية التي لا معنى لها (مع علمي أن بعض البيروقراطيات لها منجزات كبيرة) دون أن يرتبط ذلك بمنجز نقيمه ونسعى له (1) ليعذرني القارئ العزيز هذه المرة إذ إنني سأتحدث بصفتي الشخصية وعن تجاربي في الجامعة، وسيكون محور حديثي عن الحياة الجامعية اليومية التي تدفعنا دائماً إلى الخمول وعدم العمل، ولأبدأ بفكرة «الأسرع يأكل الأبطأ» التي تحدث عنها كثير من المهتمين بتطوير المؤسسات وخمولها ومن ثم موتها، فقد رأى أولئك أن الأمر لم يعد يقتصر على «الأقوى يأكل الأضعف» أو «الأكبر يأكل الأصغر» أو حتى «الأغنى يأكل الأفقر» بل تعدى الأمر ذلك وأصبح هناك معيار آخر ستستفيد منه المؤسسات الصغيرة والضعيفة وحتى الفقيرة» وهو معيار السرعة. والفكر هنا تقول إن السرعة في الوقت الحالي هي «كل القوة» التي يمكن أن تكتسبها مؤسسات اليوم لفرض وجودها في الغد. ولأن الأمر كذلك لابد أن أتحدث عن مؤسسة التعليم العالي بشكل عام في بلادنا (البطيئة التي يبدو لنا أنها ليست في عجلة من أمرها) وعن الجامعة بشكل خاص ولا يعني ذلك أنني أتحدث عن جامعة الملك فيصل التي أنتمي لها (وإن كانت الأمثلة التي سأوردها هنا كلها من هذه الجامعة لكنني على يقين أن كل الجامعات السعودية تعاني المعاناة نفسها). (2) رغم أنني أعتقد أن القارئ ملّ شكوانا من المستوى المتراجع للتعليم العالي في بلادنا ووجد أنه لا فائدة تذكر من هذه الشكاوى المتكررة ووصل إلى قناعة إلى أن الأمر بحاجة إلى قرارات وهي بعيدة المنال في الوقت الراهن، ومع ذلك يحلو لنا (معشر الدكاترة) النقد المستمر وكأننا نقول لأنفسنا (وذكر) ونتمنى أنها تكون ذكرى نافعة. ولأنني أجد نفسي أثقل على القارئ بهذا الموضوع الذي طرقته كثيراً من قبل لذلك فإني تلمست العذر منه من البداية، وأحب أن أقول له إنني «أنفس» عما يجول في نفسي أحياناً بهذه المقالات وأحياناً أحاول أن أفكر بصوت مرتفع ومرات أريد أن يسمع شكواي الآخرون (دون أن تكون شكوى رسمية). ولأن حديثنا اليوم عن الأسرع الذي يمكن أن يأكل الأبطأ لذلك قد يكون من المناسب أن نتحدث عن (التفاعل السريع) الذي تبديه الجامعة و(تخجلنا لتقصيرنا) في قضايا ملحة تمس الأساتذة والطلاب والمناخ الأكاديمي بشكل عام. (3) وكما وعدت القارئ أن أتحدث عما يخصني فقط وما مررت به من حالات مثيرة تؤكد «الهم الكبير» الذي تحمله الجامعة لأساتذتها كي تدفعهم للمنافسة والتطوير وبناء بيئة تعليمية متفوقة ولأبدأ بحكايات الصيف (الممتعة دائما) فقد كان مفترضاً لي أن أشارك بورقة علمية في لندن في الصيف الماضي وقدمت كما تنص تعليمات الوزارة قبل أربعة أشهر واكتشفت أن الأمر لم يسر كما ينبغي وظلت المعاملة تسافر بين الوزارة والجامعة إلى آخر أسبوع عندما اكتشفت أنه لم تصدر الموافقة وصرت أتصل بنفسي على المسؤول عن هذا الأمر في الجامعة حتى صدرت الموافقة اليوم الذي كان يفترض أن أقدم ورقتي فيه، ولم أسافر طبعاً ليس لأني لم أحصل على موافقة بل لأنه لم تجذبني حالة لندن الأمنية تلك الأيام، والحقيقة إنني توفقت عند هذه الحادثة كثيراً لأن الجامعة والوزارة إما أنهما لا تباليان أبداً بهموم أعضاء هيئة التدريس أو أنهما لا تباليان بالتعليم نفسه وتطلبان من الأستاذ أن «يركض» ويتابع أوراقه في أروقة الجامعة والوزارة (وكثير منا يفعل ذلك) وبالتالي ضياع للوقت وتشتيت للتركيز، وقلت في نفسي إن العالم ينطلق بسرعة وأصبح عالماً الكترونياً ونحن مازلنا نحاسب على الأخطاء الإملائية ويمكن أن نعطل مصالح مهمة مرتبطة بإنجازات علمية ومعرفية يعود نفعها للوطن لمجرد «عدم الاكتراث». (4) الحكاية الأخرى كانت في نهاية الصيف (بداية العام الدراسي في شهر سبتمبر المنصرم) وكانت لا تقل عن الحكاية الأولى متعة فقد كان مفترضاً أن أشارك في العاصمة المغربية في مؤتمر وقدمت مبكراً (حسب التعليمات) وفوجئت متأخراً أنه لم يحدث شيء وعندما حاولت أن أعيد الكرة قالوا لي إن الوقت متأخر و النظام لا يسمح، فقلت «شر البلية ما يضحك»، فقد اتبعت التعليمات ولم يبق إلا أن أنام على باب الوزارة وأبقى في مكتب المسؤول حتى أحصل على الموافقة. ومع ذلك فلن أدعي أن الأمر كان متعمداً لأنه طبيعي ويحدث دائماً ولم يخص فيه شخصي الكريم (أو على الأقل هذا ما أعتقد) لكنه يعبر عن ثقافة العمل في الجامعة والوزارة لذلك لم أجد غضاضة في أن أهز رأسي وأقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الأمر الممتع هنا هو أنني تعلمت درساً مهماً هو أنني يجب أن أسلم أوراقي مناولة وأتسلمها مناولة لأنها الطريقة الوحيدة الناجعة في هذه الحالة. أما النتيجة النهائية لهذين الحدثين هو أنني خسرت فرصة المشاركة في لقاءين علميين أحدهما تعودت أن أشارك فيه سنوياً وأن أقدم فيه ورقة علمية تقربني من المهتمين بمجال التخصص وتطلعني على الجديد فيه، والأهم من ذلك هو أن الجامعة كانت ستتكفل فقط بتذاكر السفر وانتداب لمدة يومين لا يكفي للسكن في فندق درجة ثالثة في مدينة الضباب. (5) ولأنتقل لحكاية من نوع آخر ولعل الأمر هنا أكون فيه أنا المخطئ، فقد كان يفترض أن أكون ممتحناً خارجياً لبحث دكتوراه في إحدى الجامعات البريطانية وتحدد موعد المناقشة متأخراً وطلبت هاتفياً من المسؤول في الجامعة كي آخذ مواقفة سريعة لكنه أصر على اتباع الإجراءات الرسمية وفعلاً تم اتباع الإجراءات الرسمية وأرسل الخطاب قبل إجازة العيد بفترة كافية للحصول على موافقة (إذا كان هناك اهتمام بالأمر طبعاً)، وفوجئت قبل أيام بوصول خطاب الموافقة (بعد انقضاء موعد المناقشة بأسبوع) والحقيقة أنني جازفت وذهبت بعد أن قدمت للجامعة طلب الموافقة (والبعض قد لا يجازفون). في داخلي تمنيت أن لم تأتني الموافقة بعد الموعد وتمنيت أن اكتفي بالمحادثة الهاتفية، فالأمر هين ولا يستحق معاملة طويلة عريضة لأخذ موافقة على حضور مؤتمر ومناقشة بحث هنا وهناك فهذا عملنا ومجالنا، ولا أدري كيف يلام الأستاذ السعودي الذي أجبر على الخمول وهو محاصر بثقافة وصاية أكثر من أبوية تقيده وتفرض عليه حدوداً فكرية ضيقة ومساحة من الحركة لا يكاد يتحرك فيها، حتى أننا نكاد لا نستطيع أن نقوم بأي عمل داخل أو خارج الجامعة إلا بإذن (وقد طلبت مؤخراً من الكلية استضافة أحد الضيوف من بريطانيا لإلقاء محاضرة دون تكاليف وهو موجود بيننا فقالوا لابد من أخذ موافقات تحتاج إلى شهور). (6) تبقى حكاية أخيرة مررت بها مؤخراً وهي لا تختلف كثيراً عن الحكايات السابقة فقد كنت بصدد اجراءات معاملة مستشار غير متفرغ لإحدى الجهات وكان ذلك قبل الصيف (وأحب أن أطمئن القارئ أنه حتى هذه اللحظة لم تأت الموافقة ولا أعلم متى ستأتي ولست مستعجلاً عليها). الغريب في الأمر أن المعاملة رجعت من وزارة التعليم العالي مرتين ومن نفس المسؤول، المرة الأولى بسبب عدم وجود خطاب الجهة الطالبة (وهو أمر يمكن أن يحسم عن طريق الفاكس) والمرة الأخيرة لأن صاحب الطلب لم يقم بتعبئة استمارة مستشار غير مفترغ، والشهادة لله أنني أول مرة أعرف أن هناك استمارة من هذا النوع (رغم أنني مارست الاستشارة أكثر من مرة) كما أنني صرت أتساءل لماذا لم يطلبها المسؤول في المرة الأولى. المضحك هو أنه يجب أن توقع الاستمارة من الجهة الطالبة (بعد أربعة أشهر من الطلب) وطبعاً لا أعلم ماذا ستطلب الوزارة بعد ذلك لكنني مستعد لكل الطلبات لأنه ليس لي خيار آخر. لا أعتقد أنه يمكن لأحد أن يبدع في مثل هذه الأجواء المحتقنة بعدم الاكتراث، ولا أعتقد أنه ستتطور بيئتنا التعليمية إذا بقي الأمر على ما هو عليه فالأمر مضحك مبك، وأجمل ما فيه أنه يعلمنا كيف نصبر وكيف نبتلع المرارة، ونوهم أنفسنا بأن طعمها حلو. (7) تبدو هذه المقالة وكأنها شكوى شخصية وهي إلى حد ما كذلك لكنني أكرر أنها ليست خاصة بي وحدي لأني على يقين أنه إذا لم يلاحق عضو هيئة التدريس أوراقه في الجامعة والوزارة التي يفترض أنها تعي أننا نعيش عصر «الأسرع الذي يأكل الأبطأ» لن تكون النتيحة مرضية بالنسبة لأحد وسوف لن يعتني بالأمر أحد لأنه غير مهم أصلاً (فلا حاجة لنا بالمهتمين وبالراغبين في تطوير أنفسهم). هذه الحكايات حدثت خلال الأربعة أشهر الأخيرة فقط وبالتأكيد أن هناك الكثير الذي لا يمكن أن يقال لكنه جزء من ثقافة التعليم العالي التي نعيشها. فالجامعة مؤسسة بيروقراطية أشد من أي مؤسسة أخرى والوزارة مثلها وتشجعها على البيروقراطية التي لا معنى لها (مع علمي أن بعض البيروقراطيات لها منجزات كبيرة) دون أن يرتبط ذلك بمنجز نقيمه ونسعى له. فأنا هنا لا أعترض على النظام ولم أعترض عليه في يوم لكنني متأكد أن النظام مجرد ورق وليس ثقافة تسعى للتفوق (مع أن التفوق هدف النظام أصلاً). وأذكر على سبيل المثال أنني مرة دعيت لإلقاء محاضرة في الجزائر وسمعت أن الجامعات رفضت لأن الوضع الأمني في الجزائر غير مطمئن (وهي مسؤولية شخصية أتحملها أنا لو أن الجامعة عرفت أنها ليست ولي أمري) لكن لم أتلق خطاباً حتى الآن بالموافقة أو بالرفض وهو أمر مرت عليه سنوات. هذا الاستهتار بمستقبل عضو هيئة التدريس السعودي يجعله دائماً في مرتبة أقل من الأساتذة الآخرين على مستوى العالم وهو ما نشعر به في كثير من الأحيان عندما نشارك الآخرين لقاءاتهم (ولا أريد أحداً أن يضرب لي أمثلة عن أساتذة سعوديين متفوقين فهؤلاء خارج القاعدة ولهم ظروفهم الخاصة). الضعف أصلاً نابع من داخل أروقة الجامعة والوزارة وهو الأمر الذي يجعل من صورة الأستاذ عندنا غير مؤثرة ولا يمكن بالطبع أن تكون منتجة.