(1) حاولت أكثر من مرة أن ارسم صورة واضحة للمشهد الأكاديمي في الجامعات السعودية فلم استطع أن اشعر بهذا المشهد، حيث لا مناخ هناك يمكن أن نطلق عليه مناخاً أكاديمياً حقيقياً ويبدو لي أن هذا الشعور الذي يتنامى لدي عاماً بعد عام ويتراكم مع تراكم سنواتي التدريسية تحول إلى هاجس ممل صار يحيلني إلى اليأس والقنوط ويُولّد لدي عدم مبالاة بهذا المشهد الجامد الذي عجزت كل المحاولات (وهي محاولات غير جادة أصلاً) عن زحزحته عن سكونه وعجزه. بصراحة صرت أشعر أن الآخرين لا يأخذون مشهدنا الأكاديمي مأخذ الجد، ولا يعتبرونه يحدث مناخاً علمياً يعتمد عليه. هذا الشعور المزعج أراه في عيون من اقابلهم في المؤتمرات واسمعه ممن يملك بعض الجرأة ليقول إن مشهدكم الأكاديمي دون إنجازات ودون تأثير. والحقيقة انني عندما احاول أن ادافع عن هذا المشهد لا اجد ما اقوله فأصمت في استكانة واضحة اكره فيها حالة العجز التي تعتريني في كثير من هذه المواقف. فعن أي صورة استطيع أن اتحدث، عن البحث العلمي غير المحسوس وقد قابلت قبل عدة أيام «عمداء» البحث العلمي في إحدى جامعاتنا العريقة وعندما علمت أنه في هذا المكان سألته «أين البحث العلمي يا سعادة العميد»، فقال «اننا نحاول» فقلت له «اننا بحاجة إلى أكثر من المحاولة». أم اتحدث عن المناهج الأكاديمية البالية، فالتطوير والتحديث لا يحدث إلا بقرار رسمي، أما المبادرة فحدث ولا حرج إنها من المحرمات الكبرى التي يمكن أن يُحاسب من يُقدم عليها أيما محاسبة. (2) كنت قرأت كتاباً عن مستقبل الجامعة في مصر لمؤلفه الدكتور مصطفى عبدالغني، ووجدت أن الكثير مما ذُكر في هذا الكتاب يمكن أن ينطبق على حالتنا في المملكة، ويبدو أن الإشكالات التي تعاني منها الجامعة والتعليم العالي تمثل حالة عربية واحدة على أن الكتاب برمته يركز على حالة الأستاذ الجامعي وتراجعه داخل المشهد الأكاديمي، إذ إنه لم يعد قدوة للطلاب، فهو مشغول بأشياء أخرى غير اكتشاف مهاراتهم وتنميتها. ويبدو أن تحييد الأستاذ إدارياً وجعله يقف متفرجاً على الأحداث التي تجري في الجامعة دفع به مع الوقت إلى السلبية، وهو رأي اعتقد أنه صحيح إلى حد كبير. والحقيقة أنني حاولت أن اتعرف على أسباب هذا التحول في دور الأستاذ الجامعي وعدت بالذاكرة لتحليل قدمه الدكتور عبدالله الغذامي عن دور الجامعة في بدايتها وانفصال الأساتذة عن المجتمع حيث كان الأستاذ مهتماً بالعمل الأكاديمي (وهذا خطأ تاريخي)، وكيف أن هذا الأمر لم يستمر طويلاً مع خلل «الطفرة» في منتصف السبعينات من القرن الماضي. حيث تصاعدت قيم رأس المال، وفي اعتقادي أن بداية التحول في المشهد الأكاديمي بدأ منذ تلك اللحظة حيث هيمنت «المصلحة الخاصة» على ما سواها من مصالح ولم يعد هناك هدف مجتمعي حتى عند أساتذة الجامعة خصوصاً وهم يرون انفسهم خارج دائرة التأثير. (3) ومع ذلك فإنه يفترض علينا أن نسأل لماذا وصلنا إلى هذا المشهد الأكاديمي «الموجع» الذي لم يعد فيه أطراف فاعلة (وأولهم أساتذة الجامعات) وما الذي دفع هؤلاء الأساتذة إلى التخلي عن «برستيجهم» الاجتماعي وتأثيرهم الثقافي، حيث لم يعد لهم أي دور في عملية صُنع القرار. ويبدو أن لهذا التحول تأثيراً سلبياً عميقاً في رسم هذه الصورة القاتمة عن التعليم العالي، فالاستاذ الجامعي يمثل ركناً أساسياً في العملية التعليمية وعندما «يتواطأ» الأستاذ (سواء مرغماً أو عن غير قصد) مع المشهد الرسمي الأكاديمي الذي يرغب في بناء جامعات تحت السيطرة والهيمنة المطلقة للمركز، تقول عندما يحدث هذا التواطؤ أو الاستسلام لابد أن يتحول المشهد الأكاديمي إلى مجرد مسرح «رديء» لا يقدم أي أعمال عظيمة تستحق المشاهدة. (4) هذا المشهد الأكاديمي الذي يستعصي حتى على «الإشاعات» وعلى «التصريحات» يثير حفيظتي أحياناً. فقد تلقيت اتصالاً من أحد الزملاء منذ ما يقارب الشهر يبارك لي التغيرات الجديدة التي ستعيد هذا المشهد الرتيب، وقال لي لقد صرَّح وزير التعليم العالي بتغييرات كبيرة سوف تحرك المياه الراكدة في الجامعات السعودية فجلست انتظر صدور أي قرارات في ذلك الأسبوع والذي يليه، ثم نسيت الموضوع وتذكرت زخم الإشاعات خلال السنوات الأخيرة حول الموضوع فضحكت من نفسي وعليها وقلت انني مثل الغريق الذي يتعلق في قشة، ولمت سذاجتي التي تجعلني اصدق كل مرة أن هذه الرتابة والجمود وعدم الاكتراث الذي عليه مشهدنا الأكاديمي يمكن أن يتغير. إنه جزء من تقاليدنا العلمية التي يصعب تغيرها، وصرت اعود لقناعاتي القديمة التي ترى استحالة تغير «الثقافة الرسمية» في تعليمنا العالي على الأقل في السنوات القليلة القادمة، وهي سنوات مؤثرة قد يصعب علينا تعويضها. وصرت اقنع نفسي أنه «ليس بالإمكان أحسن مما كان» وأن علينا أن نتعامل مع الواقع، وواقع الجامعة أكثر من محزن. ولعلنا هنا نستطيع أن نتحدث عن مجموعة من المشاهد الأكاديمية التي تؤكد «سقوط الجامعة» في تأدية رسالتها، فهذا سقوط له أسبابه الكثيرة التي لا تخفى على من له قلب. (5) المشهد الأول يبدأ بخلل في الهيمنة الذي تعاني منها الجامعة، وخلل في الاستقلالية والمقدرة على اتخاذ القرار، وخلل في طغيان المركزية حتى تحولت الجامعات إلى مؤسسات إدارية تنجذب للمركز وتحول رؤساء الأقسام والعمداء إلى فرق إدارية منفصلة ومعزولة عن «المشهد الأكاديمي» وتم تهميش الأستاذ والطالب. هذه الفرق تُحرك بخيوط من المركز حتى أن الأستاذ في الجامعة صار يتلقى «تعاميم» تطالبه بالاستئذان قبل كل عمل يقوم به. وبت أخشى أن تعين وزارة التعليم العالي أو أن تطلب من الجامعة تعيين «مفتشين» يحضرون مع الأساتذة محاضراتهم ويرفعون تقاريرهم إلى الوزارة أو الجامعة. ويبدو أننا على اعتاب خطوات بيروقراطية تُحد من أي حركة تراها وزارة التعليم العالي خارج «اساورها» الحديدية التي فرضتها على مشهدنا الأكاديمي. انني اتخيل كيف يمكن أن يكون هناك إبداع معرفي والتعليم العالي يشكله «المشهد الرسمي» المرسوم سلفاً والمكبل بكل ميراث البيروقراطية الذي صار يتراكم بسرعة هائلة، ويعيد طلاب الجامعة إلى الصفوف الثانوية ويدفع الأستاذ إلى الخوف من أي عمل خارج المسار الرقمي. (6) أما المشهد الأكثر عتمة هو ذلك الوهم الكبير الذي نعد به الوطن، فخريجونا هم من أنصاف المتعلمين، حيث تطغى ثقافة الكم واستيعاب الطلاب عما سواها فهي الهدف الأول ولن اقول الأخير حتى لا يتهمني أحد بالتشاؤم «الشديد»، أما نوعية التعليم فحدث ولا حرج، حتى أن متعة التعليم نفسها قد فقدت وقد سمعت هذا من زملاء من كل الجامعات في المملكة تقريباً، ورأيت على وجوههم الامتعاض تختلط بها كلمات التأفف من المستوى المتدني للمناخ التعليمي في الجامعة. فلم يعد هناك متعة في تعليم الطلاب، حيث أصبح العدد هو الأساس ولم يعد للنوع قيمة. ولعلنا هذه الأيام على اعتاب قبول الطلاب وبدء موسم جديد من إحداث توسعات كمية وترقيعات «صفوفية» و«تمطيط» للقدرة الاستيعابية لكل كلية ومعهد (مع توسيع الرقعة الجغرافية للجامعات السعودية)، وكل هذا من أجل «نفخ» الجامعات بالطلاب، فلا منفذ لهؤلاء الشباب والشابات سوى الجامعة. ولعلي هنا استطيع أن اعطي بعض الأرقام الإحصائية الحديثة جداً في حاضرة الدمام. تقول الأرقام إن الحاصلين على مؤهل جامعي هم 16٪ من عدد السكان تقريباً بينما نسبة من هم في التعليم في كل مراحله 62٪ تقريباً. بالنسبة لي هذا يعني مزيداً من «النفخ» الكمي للجامعات في المستقبل حتى أني بت اخشى أن تنفجر وتتطاير اشلاؤها ولا نستطيع أن نلمها، كما انها تعني لي قنبلة بطالة موقوتة سوف نحتاج أن نتحمل شظاياها قريباً. (7) أحد المشاهد التي تخصني وحدي أو لنقل تجعلني اتساءل كثيراً هي ما تسميه وزارة التعليم العالي أسابيع الجامعات السعودية، ولا اعلم ما هو المقصود بهذه الأسابيع التي لم اعلم عنها شيئاً في حياتي الأكاديمية، فطالما قلت انها جزء من المشهد الرسمي التي تحرص الوزارة عليه ويبدو أن هناك تمثيلاً رسمياً يتكرر باستمرار، ولا شأن لنا بذلك لولا أن الوزارة تثير حفيظتنا كل مرة بأن تسميه «أسبوع الجامعات السعودية». وقبل فترة سمعت وكيل الوزارة يقول في إحدى القنوات التلفزيونية «انها أسابيع علمية»، ويبدو أن هذه الأسابيع خارج «سياسة التعاميم» التي تصلنا بمعنى وبدون معنى، إذ انني (وهذا تقصير مني) لم اعلم في يوم عن هذه الأسابيع إلا بعد انقضائها ولم أقرأ حتى هذه اللحظة أي تقرير أو تحليل يبين لنا الفوائد التي جنتها الجامعات السعودية من هذه الأسابيع العلمية أو الثقافية (وقد احترنا في تسميتها). ومع ذلك فقد قلت ربما هي أسابيع فقط لأهل «الحل والعقد» في مشهدنا الأكاديمي فلأتركها وشأنها فهي على كل حال نقطة في البحر الذي يغرق كل تعليمنا. (8) ويبقى هناك مشهد إداري مثير، فهناك من هم داخل الجهاز المركزي ومن هم خارجه، وأغلب الأساتذة خارج ذلك الجهاز الذي لا يحظى بدخوله إلا «بعضهم»، ويبدو أن الجهاز يعزز «المشهد الرسمي» الذي تحرص على اتقانه جامعاتنا. وبعيداً عن الكفاءة والتخطيط الاستراتيجي للعملية التعليمية (فهذا أمر غير مهم)، هذا المشهد الإداري هو من يحرك التعليم ويصنع المشهد الأكاديمي برمته. وطالما أن كل شيء في الجامعة بالاختيار وبالتعيين، فإن هذا المشهد الإداري سيظل يصنع هذه الصورة الباهتة للتعليم. ومع ذلك فإنه لا يعني تغيير المشهد الإداري والعودة مثلاً لانتخاب رؤساء الأقسام والعمداء (كما كان في السابق) سيعيد المشهد الأكاديمي لحيويته، بل هناك الكثير مما يجب علينا عمله حتى يتحسن الوضع ولعل أو تلك الخطوات هو «استقلالية الجامعة» وتحسين المناخ التعليمي والبحثي (من خلال الانفتاح على البيئات التعليمية المتقدمة وعقد شراكات حقيقية مع مؤسسات تعليمية معروفة وتدريب أساتذة الجامعة وإعطائهم حقوقهم المعنوية والمادية كاملة) ودفع الأساتذة للمبادرة دون خوف أو تردد وإعادة الثقة التي بدأت تتساقط بين المجتمع والجامعة، ولعمري كل هذا يحتاج مناخاً ثقافياً وانفتاحاً إدارياً لا استطيع أن اقول إنه متوفر لدينا في الوقت الراهن. وفي اعتقادي أن المشهد الأكاديمي في الجامعات السعودية معقد ويحتاج إلى المزيد من التحليل وسوف اترك هذا لبداية العام الدراسي حتى لا يتعكر صفو الصيف فهو فرصة للراحة وللحديث عن أي شيء إلا التعليم وهمومه المستعصية.