فالمطالبة بإصلاح التعليم ليس ترفاً بل هو مسألة حياة ويجب علينا أن نعي ذلك جيداً قبل فوات الأوان. كما أنني على يقين أن هناك من يقاوم تغيير سياسة التعليم عندنا ويرى أن الأسلوب الذي نتبعه في الوقت الحالي هو الأنسببالنسبة له ويظهر لي أننا بحاجة إلى فتح حوار مفتوح مع هذه الفئة المقاومة لتطوير التعليم، إذ يبدو أن هناك كثيراً من سوء الفهم لو تم إيضاحه قد تخف هذه المقاومة ويصبح المجال مفتوحاً لتغيير حقيقي. (1) تفتق ذهن وزارة التربية والتعليم مؤخراً فوضع وزيرها الجديد مجموعة من القرارات يرى انها ستنقذ التعليم وتطوره فبدأ بقرار إلغاء بند محو الأمية الذي تستفيد منه أكثر من 25 ألف معلمة (ربما لأنه بند ظالم ولا ينبغي لوزارة مثل التربية والتعليم أن تستمر في تبني قرارات، اتخذتها في السابق، واكتشفت فجأة أنها قرارات ظالمة) ولا نعلم إن كان الوزير سوف يقرر بأن ال 25 ألف معلمة سيتم تحويلهن إلى معلمات رسميات أم انهن سيرسلن إلى بيوتهن ليزداد عدد البطالة عندنا (وتتحول المشكلة إلى وزارة العمل). كما قرر الوزير أن لا مكافآت للجان التصحيح في الثانوية العامة (ولا اعلم من سيصحح الاختبارات أو أن الوزير يرى أن على المعلمين والمعلمات تصحيح الاختبارات خارج أوقات العمل دون أي مقابل)، ويبدو أن قرارات الوزارة «التقشفية» سوف تستمر ربما لأن «الوزارة تسرف كثيراً في التعليم وأن مكمن تدهور التعليم هو في هذا الإسراف غير المبرر رغم أن تكلفة الطالب في المملكة أقل من نصف تكلفة الطالب ليس في الدول المتقدمة بل في بعض الدول المجاورة. هذه القرارات «الجرئية» و«الحيوية» التي تصب في صلب الإشكالات التي يعاني منها تعليمنا سوف يكون تأثيرها العظيم مدوياً وسوف تقلب التعليم رأساً على عقب وسوف تنفض عنه «غبار التخلف»، وستجعل من تعليمنا أكثر تحراراً وسوف تشجع معلمينا ومعلماتنا على البذل وسوف تغير صورة «المعلم دون تعليم» و«المدرسة دون تدريس» و«التربية دون التربية» التي يعيشها تعليمنا في الوقت الحالي. هذه القرارات سوف تكرس الإحساس بالمسؤولية لأن المعلم والمعلمة قد أخذوا حقوقهم كاملة، وسوف تنمي عندهم الحس الذاتي ومراجعة النفس عند ارتكاب أي تقصير وسوف تدفعهم للتفكير في مستقبل هذه البلاد عن طريق تعليم أبنائها بكل طاقاتهم وسوف تجعلهم في حالة دؤوبة من أجل تطوير مهاراتهم لأن هذا يعني انهم سوف يقومون بعملهم على خير وجه. انها قرارات تصنع مناخاً ايجابياً ولا تزيد من الهوة السحيقة بين من «يدير التعليم» ومن يقوم بعملية التعليم. (2) ويبدو أن الاهتمام بالشكليات والتفكير في «غير الضروريات» وتحريك عاطفة الجمهور من خلال إصدار قرارات تمس فئة كبيرة من المجتمع تهدف بالدرجة الأولى لتلهية الناس عن المسائل الكبيرة، وفي اعتقادي أن وزارة التربية والتعليم تصدر قراراً اليوم لتنقضه غداً لأنها لا تملك أي حلول أخرى. فمسائل التعليم العالقة تحتاج إلى جرأة وتخطيط وقد لا يقطف ثمارها من هم على رأس الوزارة في الوقت الحالي، لكن بالتأكيد سوف يقطف ثمارها الوطن وأبناؤه. الأمر المحزن حقاً هو اننا كنا متفائلين بالتغيير الشامل في القيادات التعليمية في وزارة التربية وكنا نتصور أن تعلن الوزارة عن «ترشيد التعليم» وليس ترشيد «نفقات التعليم» لكن قرارات «الإثارة» التي تصدرها الوزارة بين الحين والآخر لا تبشر بالخير، فهي تقرر أن تلغي بند محو الأمية وتقول في الوقت نفسه إنها سوف تصدر قرارات بتعيين قيادات نسائية تعليمية في المناطق قريباً، ورغم أن هذا الإعلان (واقصد هنا القيادات النسائية) له ايجابيات لكنه ليس مسألة مهمة تمس التعليم وتطويره. فيا وزارة التربية والتعليم نحن ننتظر إعلان قرارات عن خطط متأنية وواضحة لتطوير التعليم وليس قرارات «سينمائية» لإثارة المتفرجين وتسليتهم. (3) أما وزارة التعليم العالي والجامعات التي تتبع لها فالحمد لله لا قرارات جديدة ولا إثارة ولكن دائماً هناك قيود جديدة وتفنن في ابتكار وسائل بيروقراطية لتكبيل الأستاذ وتقليص مساحة الحركة الضئيلة المتاحة له، فمن الأفكار الجديدة التي تفتق ذهن الجامعة عنها هي أن الأستاذ الذي يرغب (وأشدد على كلمة يرغب لأن الجامعة لا تشجع أحداً على المشاركة) أن يلقي ورقة في مؤتمر (خارج الوطن) يجب أن يقدم قبولاً صريحاً ومكتوباً (ومختوماً، وأخشى أن تطلب تصديقاً من وزارة الخارجية في الدولة التي سيعقد فيها المؤتمر) لورقته من الجهة المنظمة كما يجب أن يقدم تقريراً وعرضاً (في القسم حتى يصدق زملاؤه ورئيس القسم أنه قدم ورقة فعلاً) بعد أن يقدم ورقته حتى تسمح الجامعة له وتعطيه تذكرة ذهاب وعودة وانتداب (ثلاثة أيام بحد أقصى) لا يغطي أحياناً مدة الطريق وليس الإقامة (بينما إدارة الجامعة العليا في انتداب مفتوح من أجل مصالح الجامعة العليا طبعاً)، على أنه في المقابل متاح للاستاذ أن يحضر المؤتمر (دون ورقة علمية) ودون أي تعقيدات بيروقراطية والفرق هو (انتداب الثلاثة الأيام فقط). وإذا ما قرر الأستاذ حضور مؤتمر على حسابه الخاص يجب أن يستأذن وغالباً لا يأتيه الإذن إلا بعد انتهاء المؤتمر وعليه في هذه الحالة أن يأخذ إجازة (اضطرارية) حتى لا يلومه أحد (وسوف يلومه الجميع). إنه تشجيع منقطع النظير للبحث العلمي سوف يدفع الجامعات للتطور، وسوف يجعل الأستاذ ينشغل ليلاً ونهاراً من أجل مواصلة العمل في دراساته وبحوثه العلمية التي تراها الجامعة أهم من أي شيء آخر وتقدره التقدير الذي يليق به. إنه أمر محزن أن يصل بنا الحال إلى هذه الدرجة التي لا يمكن قبولها، والغريب أن هناك من ينتقد الأستاذ السعودي ويرى أنه أقل من غيره إنتاجاً في مجال البحث العلمي. إنه نقد مضحك لأن هذا الأستاذ المسكين الذي تتقاذفه الأنظمة الجامعية العتيدة والتقاليد الاجتماعية العريقة وضيق ذات اليد والمستوى المتدني للطلاب نتيجة ضعف التعليم العام (الذي يجعله يشعر بملل من التعليم وأنه يزرع في أرض بور)، اقول إن هذا النقد المضحك المبكي الذي يوجه لهذا الأستاذ يؤكد اننا ما زلنا نترك الأسباب ونركز على المظاهر، لأن الحالة التي وصل لها الأستاذ السعودي هي نتيجة الضغوط المتواصلة التي تمارسها الجامعة على الأستاذ الذي يرى نفسه حراً ومأسوراً في الوقت نفسه. حراً إذا ما اراد أن لا يصل فلا أحد يحاسبه فعلاً ومأسوراً إذا ما اراد أن يعمل لأنه سوف يحاسب وسوف يساءل وسوف يضيق عليه، فهل ينتقد بعد ذلك عندما يقرر أن يمشي «جنب الحيط» وأن يكون ظلاً خفيفاً لا يشعر به أحد؟ (4) كنت فكرت أن يكون عنوان المقال «التعليم المستقل»، ووجدت أنه عنوان يمثل شعاراً وأملاً لا تبحث عنه مؤسسات التعليم في بلادنا بل أن ما يجري هو العكس تماماً فهناك وزير يقرر مصير أكثر من 25 ألف معلمة دون أن يفكر في أي بدائل لأنه يرى أن هذا القرار من صلاحيته، وأن لا أحد من حقه أن يسأله عن هذا القرار (غير المبرر من وجهة نظري الشخصية)، وهناك جامعة تتفنن في ابتكار العوائق أمام تطور البحث العلمي وترى في «اتباع النظام» من أجل التضييق على الأستاذ مسألة أهم بكثير من تطوير التعليم وخلق مناخ أكاديمي صحي. ورأيت أن التعليم لا يتطور أبداً طالما أنه يدار بفكر مركزي وطالما أن هناك شخص أو مجموعة أشخاص يمكنهم تغيير مسار التعليم حسب ما يرونه، فإن احسنوا تحسن وضع التعليم وإن اساءوا «تاه التعليم»، ورأيت أن عنونة المقال ب «التعليم المستقل» قد توهم القارئ الذي قدر أن يمر مرور الكرام على المقال اننا نملك تعليماً مستقلاً، بينما تعليمنا يقبع في أسر البيروقراطية والمركزية ولا يشارك في تطويره من يقوم بعملية التعليم. ومع ذلك أجد أنه من المناسب أن نتحدث عن «التعليم المستقل» و«المدارس المستقلة» كمصطلحات بدأت تنتشر وصارت هدفاً لبعض مؤسسات التعليم في كثير من الدول. فاستقلالية التعليم أمر لا بد منه لأنه هو المستقبل وهو الذي سيحمي الأمة (بإذن الله تعالى) من التخلف، فالتنافس بين الشعوب في وقتنا الحالي هو تنافس تعليمي/اقتصادي وما لم نع أن «الأسرع يأكل الأبطأ» فإن قراراتنا سوف تكون متأخرة جداً ولن تكون ذات جدوى. (5) كنت مؤخراً في إحدى الدول المجاورة ودار حديث حول «المدارس المستقلة» التي بدأت هناك وصارت تنتشر في تلك الدولة، وسألت عن ماذا يعنون بالمدارس المستقلة؟، فأجباني أحدهم أنها مدارس لها استقلالية مطلقة تقوم الدولة بدفع الرسوم عن الطلاب للمدرسة (طالب ابتدائى 16 ألف ريال والمتوسط 18 أف ريال والثانوي 21 ألف ريال). فقلت له وما الفرق بين هذه المدارس والمدارس التي تتبع وزارة التربية؟، فقال لي الفرق واسع فالوزارة ليس لها سلطة مباشرة على هذه المدارس بل مهمتها إشرافية فكل مدرسة تمثل «جامعة» صغيرة تتمتع بمواصفات التعليم الحر سواء في المنهج وما يحتويه وفي أسلوب تعليمه، كما يتمتع الطالب بحرية كبيرة في الاختيار. والحقيقة إنني كنت أتمنى أن تتاح لي فرصة لزيارة إحدى تلك المدارس والتعرف عليها عن قرب لكن الظروف لم تسمح. ولكن كان من الواضح أن هذه المدارس تتبع برامج تعليمية متطورة مستقلة عما تفرضه وزارة التربية والتعليم لكنها تحت إشرافهم من الناحية المنهجية العامة (ولا تتدخل الوزارة في وضع محتويات وشكل المناهج إلا على شكل خطوط وأهداف عامة). والحقيقة إن الفكرة راقت لي كثيراً لأنها تعني أن هذه المدرسة يمكنها أن تكون منفتحة على كل جديد في مجال التعليم في العالم وأن معلميها سوف يحظون باستقلالية منهجية كاملة وسوف يكون لطلابها فرصة كبيرة لممارسة حقوقهم الطلابية والتفاعل مع المنهج (نقده وتطويره وابداء الرأي حوله). ووجدت أن المدرسة المستقلة يمكن أن تحقق ما كنت اتمناه وهو «البيئة التعليمية» و«ليس البيئة التدريسية» التلقينية التي عليها كل المدارس التقليدية عندنا. (6) قلت في نفسي لماذا لا يكون لدينا مدارس مستقلة ولماذا لا نخفف من وطأة مركزية وزارة التربية والتعليم فسألت عن تكلفة الطالب عندنا وقيل لي (من أحد منسوبي وزارة التربية) أن الطالب عندنا يكلف في مرحلة التعليم العام 8000 ريال في السنة تقريباً، ولا اعلم إن كان يدخل في التكلفة مباني المدارس واستهلاكها أم لا ولكن على أية حال فإن هذه التكلفة أجد انها يمكن أن تصنع مدارس مستقلة لو قررت الدولة «تخصيص التعليم العام». ربما تكون الإشكالية هي في تزايد أعداد الطلاب كل عام وهو ما يعني أن هناك زيادة كبيرة مطلوبة في موازنة التعليم العام إذا ما اردنا أن نبني مثل هذه المدارس المستقلة. في اعتقادي أن الأمر بحاجة إلى دراسة مستفيضة فمثلاً يمكننا العمل بايجاد قنوات للشراكة بين الدولة وبين المواطنين لدفع رسوم الدراسة وأعتقد أن الأمر يمكن وضع ضوابط له بحيث نمكن الأسر المحتاجة من تعليم ابنائها دون دفع رسوم (وما زلت اقول إن نسبة 60٪ تدفعها الدولة و40٪ يدفعها المواطن مقبولة في الوقت الحالي). ولا أعتقد أنه إذا ما دفعنا بالتعليم إلى الاستقلالية سوف يكون هناك «انفلات في التعليم» كما قد يقول بعض لأن الهدف ليس الانفلات بل تحرير العقل من الأسر ومن التقليدية وتحرير التعليم من «مغامرات المسؤولين» ووضع ضوابط لتعليم متميز بتكلفة معقولة، فنحن ما زلنا من الدول التي تخصص موازنات ضخمة للتعليم دون أن تحقق أي تطور ملموس في التعليم. (7) ولا اريد هنا أن اكرر ما ذكرته سابقاً عندما تحدثت عن تخصيص التعليم العالي لكن الأمر بحاجة إلى إصرار وإرادة، ووجدت أن الأمر كذلك بحاجة إلى مبادرات وأنا هنا ادعو من يستطيع المبادرة كي يبادر فلم تتطور المجتمعات إلا من خلال النخب المبادرة والمؤمنة بوطنيتها وبانتمائها للمكان الذي تعيش فيه. ولا أتمنى ابداً أن تذهب كل الأفكار التي تثار في صحافتنا حول التعليم إدراج الرياح، لأن الصمت «القاتل» من قبل وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي اللتين تسيران في طريقهما «التقليدي» دون أن تلتفتان لأحد لا يدفع إلى الأمل ولا يجعلنا نشعر بأي تفاؤل، لذلك فإننا نتوقع أن تكون المبادرة من خارج «الوزارتين»، وأن تكون المبادرة بحجم التحديات التي نعيشها في الوقت الحالي،